سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

«ليلى» و«إراقة الدماء»

خدمة جليلة قدمها الغاضبون من «مشروع ليلى» للفرقة حين ضخموا من احتجاجاتهم، وكبّروا الحجر الذي قذفوها به، حتى وصلت أصداؤه إلى كل قارة. لم أتخيل قبل عشر سنوات، وأنا أحضر الانطلاق المتعثر لهؤلاء الشبان في أول حفل لهم، وكان ذلك في «مهرجانات بيبلوس»، أنهم يمكن أن يثيروا يوماً، هذا الكم من الضجيج والهلع.
كانت الفضيلة الوحيدة لفرقة الروك البديلة هذه، أنها اختارت مشكورة، العربية لغة لأغنياتها يوم هجرتها الفرق الشبابية الأخرى، لكنك، في المقابل، بالكاد تفهم ما يقولون وتبقى الموسيقى الصاخبة هي الطاغية، وهي فيض من الجنون الشبابي اللاهي. من وقتها، حققت الفرقة انتشاراً في العالم، طورت أداءها على المسرح لتصبح أكثر حرفية، اشتغل أعضاؤها على الغرافيكس والفرجة، وعلى الموسيقى التي جعلتهم يتجاوزون الحدود بسهولة. لكن الكلام، وهو بيت القصيد، وسبب الغضب الجامح، بقي كما في البدايات، ضرباً من الكلمات المتقاطعة، عليك أن تلصق بعضها ببعض كي تستوحي المعنى الذي تريد. شيء يشبه اللوحات التجريدية الفوضوية، والقصائد السريالية. قليلة الأغنيات المنسابة بمعناها، أو المتسقة في منطقها. ومع ذلك بدا للغاضبين أنهم فهموا كل شيء، وأن حكمهم مبرم وملزم. جماعة المشروع، يلتقطون ألفاظهم من كل وادٍ عصا، ويركبون أغنيات، ليس لها كاتب أو ملحن معروف. ربما يبحثون عن الغموض، أو يجدون فيه ما يلهمهم، لا يهم كثيراً.
المهم أن الفرقة كان يمكن أن تمر حفلتها، كما تلك التي أقامتها العام الماضي وكثيرات قبلها ولا ينتبه لها إلا من حضر. أما وقد تدخل كبار القوم، ووجهاؤهم، وشدت العصبيات، وصارت قضية طوائف ومذاهب، وقيل إنها مست بالمعتقدات المسيحية، وتحصن كلٌ في قلعته يرشق الآخر بالتهم، فذاك انتقال إلى مكان آخر.
بيان لجنة «مهرجانات بيبلوس» كان مقتضباً في سطرين اثنين، لكنه شديد البلاغة والوضوح ويرمي الخوف في القلوب المطمئنة. «أجبرت» اللجنة على الإلغاء «حفاظاً على الأمن والاستقرار» و«منعاً لإراقة الدماء». الجملة الأخيرة تناقلتها وكالات الأنباء، ووضعتها في صدارة عناوينها، ولا بد أنها أصابت بالصدمة كثيرين. كيف يمكن لبعض الأغنيات غير المفهومة الخاضعة للتأويل أن تثير كل هذا اليقين العنيف؟ ولماذا كان بمقدور الفرقة نفسها أن تقيم حفلاتها وتؤدي أغنياتها طوال عقد، دون أن تشحذ كل هذه المواقف الحادة؟
بقي تراند «مشروع ليلى» من بين الأكثر تداولاً، وأحياناً الأول، أكثر من أسبوع، في بلد تغرقه النفايات، وتقضمه الكسّارات. تشاتم الناس. استخدمت سوقي الألفاظ وأقذع العبارات، ومشاهد لصور تشي بأن ثمة نيات للمنع بالقوة. والمخيف ليس أن تكون مع أو ضد، بل أن تتخذ موقفك هذا من باب أنك تحمي طائفتك أو معتقدك من الاعتداء، بمنع أغنية، والأديان أكبر من الأغنيات والقصائد.
أذكر أنني يوم سألت المطران جورج خضر عند صدور كتاب «البحث عن يسوع» للمؤرخ كمال الصليبي، إن كانت الكنيسة ستطلب منعه لأنه يقول ما يخالف تماماً المعتقد الإيماني، أجاب بسماحته المعهودة: «لن يتغير عدد المسيحيين بصدور هذا الكتاب. فالإيمان الديني تسليم وليس تحليلاً يخضع لقراءات علمية». ذاك كان زمناً آخر، طويت صفحته.
الخوف يعشش في النفوس، وكل يرى أن من حقه أن يفرض رأيه على الطرف الآخر. هكذا بدا القضاء، رغم شجاعة القاضية غادة عون التي حققت مع أعضاء الفرقة وأخلت سبيل أفرادها وتبين لها أنه لا جرم ارتكبوه، هو الحلقة الأضعف. جلّ ما طلبته من رئيس الفرقة إزالة منشور عن صفحته على «فيسبوك» كان قد تشاركه، عن آخرين. هذا الحكم القضائي لم يسمح للجنة المهرجانات المحاصرة بضغوط من كل جانب أن تتخذ قرارها بما يمليه العقل، بل بما يتوجب أمام التهديد.
لم يسبق أن ألغيت حفلة لفنانين لبنانيين، لهم نشاطهم في البلاد كما حصل لـ«مشروع ليلى». هذا يعني أن المستجد ليس قليلاً، وأن وسائل التواصل تفعل فعلتها، وأن على القانون أن يفصل بين المختلفين ويفرض على الناس، لا أن يستقوي بعضهم على بعض، بما امتلك كل منهم من وسائل ونفوذ، وبعضها يذكر بالحرب الأهلية اللعينة.
رغم الكلام الجارح والمؤذي الذي وجه للفرقة، فلا بد أنها شعرت بشيء من النصر والانتشاء. فقد حقق لها المنع شهرة إضافية في وقت قياسي، في عواصم كبرى. ومن لا يصدق فعليه أن يبحث قليلاً، ليرى المتابعات في «لو موند» و«بي بي سي» و«لا برس» وتلفزيونات تنطق بمختلف اللغات.
صحيح أن الفرقة قدمت حفلاتها في بريطانيا وأميركا كما في كندا وألمانيا والدنمارك وفرنسا، ولها جولات حول العالم وتغني في الخارج أكثر من لبنان، إلا أن الخدمة الجليلة هذه المرة، جعلت أخبارها تصل إلى من لم يكن معنياً.
بقيت «مشروع ليلى» ضمن الترندات الأولى في لبنان أكثر من أسبوع، وهو ما لم يحلم به سياسي أو نجم من الدرجة الأولى. كل هذا كي لا نجعل كلماتها الخطيرة تصل إلى الآذان وكي لا يكون لها تأثير أو صدى. والنتيجة أنها صارت أشهر من أي وقت مضى، والبحث عن كلمات أغنياتها لا يتوقف، والجماهير الغفيرة تريد أن تكتشف. وأدباء لا يجدون من يقرأ لهم كتاباً يتمنون لو تمنع مؤلفاتهم، ويهددون وتسدى لهم خدمة العمر.
أفضل ما حصل في هذه الواقعة، التي انقسم الناس حولها (وهذا حق)، وثارت العصبيات (وتلك مصيبة) أن عادت منظمات مدنية إلى القضاء، تشتكي إثارة النعرات الطائفية وتطالب بمحاسبة من كادوا يتسببون في الفتنة. ففي المجتمعات التعددية «لا أمن ولا استقرار» ولا «حقن للدماء» بمنع أغنيات أو إلغاء حفلات أو شتم على «تويتر»، بل في فرض هيبة الدولة، وإعادة القرار إلى من يملك حق الفصل: القضاء.