*المشهد الأول: برشلونة 1994
كنت أنهيت توا عامي الجامعي الثالث في كلية الطب، حيث فرغت من المواد الاكاديمية، وتأهبت لدراسة المواد الإكلينيكية التطبيقية في الأعوام الثلاثة الباقية. وذهبت إلى برشلونة في بعثة للتبادل الطلابي، حيث قضيت نحو شهرين.
في الأسابيع الأولى، وقفت أراقب فريق العمل الجراحي الذي ألحقت به بناء على رغبتي؛ وكان تخصصه في الجراحات الهضمية. كانت المرة الأولى التي أدخل فيها محراب غرفة العمليات الساحر، حيث يدخل المرضى وهم بين يدي الرحمن، ويخرجون وقد عاودهم الأمل بالحياة.
كان الفريق يتكون في الأساس من البروفسور الكوبار، ومساعدته الأولى ماريا، ونائب القسم خوان. يتحدث خوان الإنجليزية بصورة جيدة، وتتحدث ماريا الفرنسية، ما مكنني من التواصل معهما بطلاقة. إلا أنني اهتممت بالإلمام ببعض الاسبانية حتى يمكنني التواصل مع باقي العاملين والأطباء ممن لا يعرفون سوى لغتهم؛ وكذلك لمحاولة التعامل مع الكوبار الذي لم أكن بالنسبة له أكثر من "سراب" أو كم مهمل داخل مملكته.
ظننت الكوبار في البداية مخبولا؛ فقد كان يستمع طوال العمليات الى سيمفونيات، ولا يتردد أن يراقص ماريا احيانا خلال أداء الجراحات. لكنني كنت أراقب كل ما أرى بكل حواسي حتى حفظت أغلب خطوات الجراحات.
بعد فترة غاب خوان في إجازة، وذات يوم تأخرت ماريا لعذر لا أعلمه. سألني الكوبار بالاسبانية التي بدأت أفهمها إذا كنت عملت سابقا بالعمليات وأعرف كيف أساعده، فأومأت برأسي دون أن أنطق.
عاونته خلال العملية، وفي نهايتها سألني مجددا إذا كان بإمكاني أن أقوم بالخطوات الاخيرة في قطب الجرح، ثم تركني أنهي العمل.. لم أكن أعرف أنه كان يقف خلفي ويراقبني.
بعد أن انتهيت، ذهبت إلى غرفة الاستراحة، وكان هناك. بادرني بإنجليزية سليمة قائلا: "أنت كاذب، لم تساعد قبلا في العمليات.. لكنني أحببت جرأتك وقدرتك على الملاحظة والتنفيذ".
خجلت من نفسي، لكنه شجعني.. وتركني أساعده طوال فترة وجودي في برشلونة، وأفاض عليّ من علمه الكثير الذي ما زلت أحفظه عن ظهر قلب حتى الآن، وكان دائما يقول لي: "ستكون يوما جراحا ماهرا وذا شأن".
علمني الكوبار الكثير، ومن ضمنه أن أعي كل شيء يتصل بعملي، حتى كيفية تنظيف الأرضيات في غرف العمليات وتعقيم الآلات. كما أنه زرع في نفسي الثقة والجرأة على اتخاذ القرار. لكن أبرز ما علمني إياه كان أن مهارة اليد شيء أساس في الجراح، لكن النابغ هو من يظل يتساءل عن سبب فعل الشيء بهذه الطريقة وليس بتلك، وإذا ما كان هناك سبيل أفضل لأداء الجراحة دائما.
لقد أنبت الكوبار بذرة الشك والبحث في داخلي الى الأبد.
*المشهد الثاني: القاهرة 1998
عقب انهائي للدراسة، بدأت فترة التدريب العملي الإجباري في اقسام مستشفى القصر العيني المختلفة. وكان من بين الاقسام التي عملت بها كـ"طبيب امتياز" وحدة التخدير، حيث رأيت بعيني وفاة مصاب أحضر لجراحة عاجلة وهو فاقد للوعي، ولكنه مات نتيجة حقنه بأحد المضادات الحيوية التي فشل اختبار الحساسية البسيط المعتاد في الكشف عن أنه لا يجب أن يعطى له.
أرّقتني وفاة المريض، وإن لم أكن مسؤولا عنها بحال. ظللت أفكر طوال الليل.. وتوجهت الى عملي صباحا وفي ذهني ما ظننته حلا بسيطا قليل التكلفة قد يسهم في علاج المشكلة.
عرضت الفكرة على النائب المسؤول عني فرحب بها، وطلب مني عرضها على الأستاذ مدير الوحدة.
دخلنا لاجتماع القسم، وفي نهايته عرفني النائب بالأستاذ وعرضت الفكرة البسيطة، والتي تتلخص في وضع وشم يشبه مربعات الكلمات المتقاطعة على ظهر الناس، يحتوي على نقاط ذات ترتيب معين، تسمح رؤيتها بالتعرف على ما يعانيه الشخص من حساسية تجاه أغلب المواد المعروفة، حتى يسهل على الطبيب اتخاذ القرار؛ حتى لو كان المريض غائبا عن الوعي.
بعد أن فرغت، سألني الأستاذ عن اسمي. أجبت في سعادة وأنا أظنه مهتما، لكنه وضع ساقا فوق الأخرى وتحدث بكلام حفر في وجداني حفرا.. قال الأستاذ: "اسمع يا هذا.. أنت هنا فقط لتتعلم، لا لتفتي وتضيع وقتنا. احتفظ بأفكارك الجميلة لنفسك ولا توجع رؤوسنا.. ولا تكرر ذلك أبدا. أخرج من هنا"... لم يناقش الأستاذ أي شيء، ولم يكلف خاطره بنقد الفكرة أو حتى القول إنها تافهة أو لا تصلح.. فقط طردني لأنه يريد إراحة عقله، ويستكثر على "نكرة" مثلي أن يفكر.
*خاتمة غير محددة التاريخ
على مدار أعوام من العمل في مهنة الطب، وغيرها، تكرر المشهد الثاني كثيرا معي، مع اختلاف الظروف المحيطة والشخصية المواجهة. وفي كل مرة كنت ابتسم في مرارة قائلا في نفسي: "سامحك الله يا ألكوبار.. لماذا أنبت في بذرة التفكر وأنا ابن بيئة لا تحب إلا السير على نهج من سبق؟".
تعاد محاكمة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك ورجال نظامه بتهمة قتل بضع مئات من البشر خلال أيام "ثورة 25 يناير".. بيد أن الواقع أن جريمة النظام الأسبق الأولى في قتل الكثير من الأحياء؛ لم يشر إليها القانون.