سيهانوك ديبو
عضو رئاسة «مجلس سوريا الديمقراطي»
TT

المخرز التركي عارياً

في التراث الشعبي الكردي مثلٌ معروف؛ تقابله ترجمة بالعربية: «لا يلاحظ المخرز الذي في عينه؛ لكنه يرى الإبرة التي في عين غيره». يذكّرنا النصف الأول من هذا المثل برفض أنقرة السريع توقيع اتفاق خطة عُقد ما بين قوات سوريا الديمقراطية موقعاً باسمها قائدُها العام الجنرال مظلوم عبدي، وباسم الأمم المتحدة الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة المعنية بحماية الطفولة ومسائل النزاع المسلح، السيدة فرجينيا غامبا، وذلك خلال احتفال رسمي عُقد في قصر الأمم المتحدة في جنيف 29 يونيو (حزيران) 2019. وصفت وزارة الخارجية التركية الاتفاق بأنه تطور خطير وبأن تركيا تُدين أيضاً توقيع الممثل الخاص ووكيل الأمين للأمم المتحدة دون علم أعضاء الأمم المتحدة؛ حسب البيان.
لو سلّمنا بادعاءات تركيا وتشكيكها في قانونية الاتفاق - الخطة الموقّع ما بين الأمم المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية؛ نجد أن تركيا هنا تُدين نفسها بنفسها وتسأل محاسبتها من قِبل الأمم المتحدة ومجلس الأمن وبإلحاح. لكن كيف؟
حسب مرئيات القانون الدولي من آليات عمل الأمم المتحدة، فإن لرئيسها أو مَن يمثله الحقَّ في نسج أي اتفاق وعقد أي خطة واتخاذ أي إجراء يفضي إلى ترسيخ الأمن والسلام وحماية المجتمع في منطقة تشهد حرباً وتنازعاً، من دون الرجوع إلى الدول الأعضاء؛ بخاصة إذا ما كانت من الموقّعة على اتفاقيات أساسية عُليا ذات صلة، كما في الاتفاق الراهن المتعلق بحماية الطفولة ما بين الأمم المتحدة و«قسد».
وإدانة أنقرة لنفسها في مثل هذا التقارب متعلقة بالسلوكيات المتخَذة من قِبلها حيال الداخل التركي وخارجه، لتؤكد أنها دولة غير طبيعية مخالفة لكل بند من قوانين الأمم المتحدة وميثاق حقوق الإنسان وشرعيته الأساسية. يتم تلمُّس ذلك فيما لو أحدثنا مقاربة لسياساتها في الآونة الأخيرة فقط، وهي التي تتكفل بإعطاء حقيقة سلوكياتها إزاء المنطقة منذ مأسسة تركيا إلى يومنا هذا.
هل نالت أنقرة موافقة الدول الأعضاء للأمم المتحدة أو الجمعية العامة على إحراق نحو 3500 قرية في جنوب شرقي الأناضول، واعتقال مائة ألف مدرس كردي في تركيا بحجة علاقتهم بـ«الإرهاب»، واعتقال عشرات الآلاف من القضاة والأطباء ومن منظمات حقوق الإنسان والصحافيين والإعلاميين بحجة علاقتهم بمحاولة الانقلاب التي جرت في منتصف يوليو (تموز) 2016؛ وما تبعها من تصفيات لم يَسْلم منه حتى حلفاء النظام في الأمس؟
وهل نالت أنقرة الموافقة على تدخلها السافر في سوريا والتدمير الذي لحقها بإشراف أنقرة المباشر؟ (في حركة واحدة منها أقامت تركيا جداراً خرسانياً داخل الأراضي السورية؛ مقتطعةً منها نحو 2500 كلم مربع من عين ديوار السورية الواقعة أقصى الحدود التركية - العراقية إلى جرابلس من قبل تركيا اليوم بطول نحو 600 كلم). لا نتحدث هنا عن سلخها لجرابلس والباب وإعزاز وتغيير معالمها المجتمعية والإدارية بشكل كامل. ولا نتحدث عن احتلال تركيا لعفرين والجرائم التي ترتكبها ضد بشر عفرين وآثار عفرين وشجر عفرين (آخر جرائمها تأسيس جدار في عفرين، يضاف إلى استقدام عوائل مرتزقتها من «التركستاني الإيغوري» و«حراس الدين» و«داعش» و«النصرة»؛ وغيرهم). ولا نتحدث هنا عن احتلالها مناطق كاملة في إدلب وفي ريف حماة الشمالي ومناطق شاسعة من شمال اللاذقية، وفي كل مرة تحت ما تسمى «نقاط المراقبة، وخفض التصعيد، ومنزوعة السلاح، ومنع التصعيد، ومحاربة الإرهاب»، وفي كل مرة كأنه كان يحدث العكس. والجميع يعلم أن تركيا تكاد تعد الوحيدة التي لم تشارك في أهم معركتين حصلتا في التاريخ المعاصر في الموصل والرقة.
وهل نالت أنقرة الموافقة من أعضاء الأمم المتحدة على ما تقوم به اللحظة من اعتداءات وقصف بالطيران على المدنيين في مناطق بإقليم كردستان العراق؟ وهل نالت أنقرة الموافقة على سطوها على المياه الإقليمية لليونان وقبرص ومصر، ومنعها من حق التنقيب عن غازها ونفطها ضمن مناطق سيادتها؟
في الحقيقة تبقى شواهد إدانة أنقرة على ارتكابها الجرائم والمخالفات، كثيرة، ولا مجال لذكرها كلها. ما يدل على أن موقف تركيا السلبي من الاتفاق المهمّ بين الأمم المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية إنما هو موقف كيدي ومسيَّس، لا بل في حد ذاته يعد مخالفة قيمية وقانونية أخرى تضاف إلى سجلها الواسع، بينما يعد هذا الاتفاق بمثابة شق الطريق الصحيح نحو حل الأزمة السورية لتتوسع فيها سوريا على جميع السوريين، وضمان إضافي أن وقت حل الأزمة السورية قد انطلق مجرد مشاركة مجلس سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية في العملية السياسية السورية الحقيقية بكل إجراءاتها و«سلالها الأربع»، في مقدمتها سلة الدستور. ولأن قوات سوريا الديمقراطية قوة محرِّرة وتتحمل اليوم مسؤولية أكثر من ثلث الجغرافيا السورية المحرَّرة بدورها من الإرهاب والاستبداد فإن هذه الخطوة تأتي منسجمة مع ما قدمته هذه القوات من حجم كبير من الضحايا في سبيل تحقيق الأمن والدفاع عن سوريا في هذا الجزء المهم منها في شمالها وشرقها، وأنها الخطوة التي تسهم في نيل الإدارة الذاتية من اعتراف رسمي وأنها تنتقل من حالة ثورية شرعية إلى حالة دستورية شرعية، ويُنظر إليها على أنها أفضل نموذج حل للأزمة السورية على أساس تحقيق سوريا دولةً لا مركزية ديمقراطية.
وبالعودة إلى المثل الكردي فإنه لا إبرة ولا شعرة في عين قوات سوريا الديمقراطية حتى تقوم أنقرة وتتهمها زوراً وبهتاناً طيلة الفترة الماضية وتندد اليوم بخطوة الأمم المتحدة المسؤولة، إلا أن الثابت في هذه المسألة يكمن في أن المخارز التركية باتت عوضاً عن أنها المرئية، فهي أكثر من أن تدمي عين أنقرة وتفقدها أن تكون دولة طبيعية وعامل تحقيق استقرار المنطقة؛ إنما مزعزعة لها. وإذا ما أصرت أنقرة على المضي في هذا الطريق فإنه يتوجب على كل مَن ربط مصيره بسياسات أنقرة المدمرة، بخاصة من السوريين، إعلان الفكاك الكامل عنها؛ فإن ذلك وقته. حينما تتغير المعطيات فإن النتائج تتغير حتماً.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»