طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

عن الهزيمة النكسة!

مرت قبل أيام هزيمة 5 يونيو (حزيران) 67 والتي أطلق عليها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل (نكسة)، وكأنه يضع قالباً من السكر على دواء مر، النكسة هي عودة للمرض بعد التعافي، وهو ما لا ينطبق قطعاً على هزيمة 67. حيث كنا نعيش تحت سطوة وهم القوة المفرطة، فتجرعنا مرارة الهزيمة الفادحة.
جاءت ذكرى يونيو والتي تفصلنا عنها 52 عاماً، لأول مرة والشاشة السينمائية في مصر وعدد من دول العالم العربي تطرح فيلم «الممر» للمخرج شريف عرفة، والذي سمحت له الأجهزة السيادية أن يقدم الهزيمة بكل بشاعتها، دأبنا لأسباب رقابية أن نضع عشرات من المحاذير التي تحول دون أن يقترب من تلك الحقيقة أحد.
كان الشارع المصري ومن ثم العربي يمتلئ بالنكات التي تسخر من الهزيمة. الفيلم مهد قطعاً لذلك حتى ينجح في تقديم الانتصار، بكل أبعاده، هذا هو الخط العام للحدث، ولكني سأتوقف أمام حالة المبالغة التي عايشناها في استعراض القوة والتي كانت هي الآفة التي دفعنا من أجلها الثمن.
اقترب الفيلم بحذر شديد من تلك النقطة الشائكة، والتي بدأت بأغنية أم كلثوم «راجعين بقوة السلاح» التي قدمتها بتعليمات مباشرة من الرئيس جمال عبد الناصر قبل الحرب بساعات قليلة، ولهذا استعانت لأول مرة بملقن يعيد عليها الكلمات قبل النطق بها.
ورددت كلمات حماسية مثل «جيش العروبة يا بطل الله معك - ما أعظمك ما أروعك ما أشجعك».
الفيلم لديه خط اجتماعي ولكنه لم يستطع أن يتوغل فيه أكثر، لأسباب أظنها رقابية، وأظنه هو الوجه الجدير بأن نستعيده الآن.
لقد حملوا الإذاعي الراحل أحمد سعيد كل أسباب الهزيمة، عرفت الإذاعي الكبير الذي غادر عالمنا العام الماضي، والغريب أنه يرحل أيضاً يوم هزيمة 67، ولهذا كتبت في وداعه «الرجل الذي مات مرتين».
الأولى عندما حملناه شعبياً تبعات الهزيمة، وصار صوته ممنوعاً من الوجود على الخريطة، لأنه كان العنوان، رغم أنه كان ينفذ التعليمات العسكرية، وكما روي لي فـإنه لو سلمنا جدلاً أنه قرر ألا يذيعها أو تشكك في صدقها، والتي كانت تؤكد أن الدفاع الجوي المصري أسقط مئات من طائرات العدو، قال لي أحمد سعيد أثناء الحروب تطبق القوانين العسكرية، وكان مصيره لو امتنع عن الإذاعة الإعدام رمياً بالرصاص.
فيلم «الممر» لم يذكر أساساً اسم أحمد سعيد، رغم أن التحليل الاجتماعي كان يقتضي ذلك، سبق وأن أشار الكاتب الكبير أنيس منصور قبل عدة سنوات على صفحات «الشرق الأوسط» أنه والشاعر الغنائي والصحافي الكبير مأمون الشناوي كانا يتبادلان النكات بعد 67، إلا أن رسالة وصلت إليهما من عبد الناصر بالتوقف وإلا (...)، وبالطبع توقفا تحسباً من «وإلا».
لا أستطيع أن أطلب من الفيلم السينمائي أن يقول كل شيء، خاصة أننا لم نتعود في مثل هذه القضايا المسكوت عنها، أن نعلن كل الحقيقة، «الممر» حاول أن يقول شيئاً ويخفي أشياء، وهي أن الناس أدركت بعد هزيمة 67 أن وهم القوة المفرطة لا أساس له من الصحة، حتى إن جمال عبد الناصر هو الذي طلب من الإذاعة المصرية إلغاء مقطع من أغنية أم كلثوم «ما أعظمك ما أروعك ما أشجعك» والتي كانت تتغنى فيه بالجيش، لأنها كانت ستؤدي حتماً لسخرية الشارع، ولم تعد تلك الكلمات، إلا بعد انتصار 73!