جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

سيدات في غابة وحوش مسلحة

يبدو، حقاً، أنه من الصعب أن تعلّم شخصاً، كبير السن، ومحالاً على المعاش، حيلاً جديدة: إذ ما حاجته إلى ذلك؟ وأصعب من ذلك أن تقنعه بتغيير بعض من عاداته اليومية: سيقول لك: لماذا؟ وقد يكون من المستحيل أن تجعله يفكر في تغيير مكان سكنه، وغرفة نومه، وسريره، وجيرانه. سوف ينظر إليك بنظرة مشككة في قواك العقلية. وإن كانت هوايته متابعة ومشاهدة مباريات كرة القدم، وتقترح عليه عرضاً بمرافقتك لمشاهدة مباريات مثيرة؟! عندها يمكن أن يمنحك أذنيه، محاولاً الإنصات. وبشيء من إقناع، وتشجيع، وصبر، أعتقد أنه يمكنك إغواؤه على مغادرة صمت بيته، وحزم حقيبته الشخصية استعداداً للطيران إلى فرنسا، في الأسبوع المقبل، لمشاهدة مباريات كأس العالم النسائية لكرة القدم، للمرّة الأولى في حياته، مع ضمان دفع كل تكاليف ومصاريف السفر والإقامة. سوف يتردد قليلاً قبل إبداء موافقته. لأن كرة القدم عزيزة على قلبه، هذا أولاً، ولأنها اللعبة الوحيدة التي تدخل البهجة إلى نفسه، وهذا ثانياً، أما ثالثاً فلأنه يريد إشباع فضول في نفسه وليرى سيدات وليس رجالاً، يلعبن لعبته المفضلة، وسط ملعب محتشد بمتفرجين.
وكأنني أعرف ذلك الكهل، حتى وإن لم أكن قابلته. وكأنني أدري بما في عينيه من تساؤلات حول جدوى مشاهدة سيدات يلعبن لعبة كانت حكراً على جنس الرجال. لكن ذلك «كوم»، وأن يكون ذلك الكهل قادماً من بلد ما زال في مرحلة حبو حضاري، ولم يتعلم رجاله بعد أن ينطقوا تاء التأنيث، في أحاديثهم، من دون أن يعلو وجوههم خجل، فذلك «كوم» آخر.
نعم، أيها القراء الكرام، أنا في انتظار أن تصلني دعوة كريمة لمشاهدة بطولة العالم النسائية في كرة القدم، التي ستقام في فرنسا، لكني غير متأكد من وصولها بالبريد إلى عنواني كما أشتهي أو أتمنى؛ الأمر الذي يحزّ في نفسي، ويحرمني من تحقيق أمنية في قلبي، قبل أن يقرر الله الرحيم أن يرسل إليّ بملاك رحمته، ليأخذني، أو بالأحرى ليأخذ ما تبقى مني، إلى حيث يعلم ولا أعلم.
هذا على أهميته، ليس في مقام أهمية ما قرأتُ، متفاجئاً، خلال الأيام الماضية، في صحيفة «الغارديان» حول شريط سينمائي أعدته وأخرجته سيدة ليبية اسمها نزيهة عريبي، سوف يعرض في دور العرض بلندن، خلال الأيام المقبلة، اسمه «حقول الحرية»، يسلط الضوء على فريق كرة قدم نسائي ليبي، تأسس بعد انتفاضة فبراير (شباط) 2011، والمشاكل التي تعرّض لها، وما يواجهه من تعنّت الجهات الرسمية حياله. التقرير حول الشريط كتبه ناقد سينمائي اسمه فل هود –Phil Hoad أشاد فيه بكاتبة قصته ومخرجته، التي تجرأت خلال أكثر من أربع سنوات على تتبع قصة الفريق، عبر ثلاث لاعبات هن فدوى، وحليمة حارسة المرمي، ونعمة اللاجئة من مدينة تاورغاء. الفريق يجري تدريباته في السرّ، بعيداً عن أعين حراس فضيلة مدعية في بلد تحوّل إلى غابة مخيفة، بوحوش مسلحة، منهوبة ثرواته، ومتلاشية سيادته، ومستقبل وجوده معلق بأكف عفاريت متصارعة. لاعبات الفريق شابات صغيرات ممتلئات طموحاً ورغبة لتمثيل ليبيا في بطولة تقام بلبنان، لكن المسؤولين باتحاد الكرة يقفون لهن بالمرصاد بحجة الخوف على سلامتهن. ويختارون سيدة للإشراف على الفريق وملازمته، يقول الناقد هود إنها لا تقل سوءا عن القذافي.
لكن الشريط لا يتوقف عند الفريق؛ لأن المخرجة الشابة تخرج إلى الشارع الليبي، حاملة عدستها، لتنقل إلى المشاهد ما حلّ بالبلاد من تغييرات، وما أصابها من تحوّلات، وما يعتمل في شوارع طرابلس العاصمة من جيشان.
لمن عرف ليبيا، أو عاش فيها لفترة من الزمن، يعرف تماماً ما يعنيه وجود فريق كرة قدم نسائي ليبي، ويعرف أكثر معنى بزوغ نجمة موهوبة ليبية في الكتابة السينمائية والإخراج السينمائي، بوعي وإدراك سياسيين لفن السينما وأهميته، وتوظيف كل تلك المهارات والقدرات لتقديم شريط توثيقي مكرس لتسليط الضوء على ما يجري تحت سطح واقع حياتي معقد، مشدود بقيود إلى ماض جامد، في مواجهة مع حاضر ديناميكي، يقوده العلم، وتستحوذ عليه التقنية، ومتغير، بسرعات متغيرة، قد تسبب كثيراً من فقدان توازن كثير من المجتمعات، ومما يدعوها إلى مقاومة التغيير؛ خوفاً من فقدان هُوّياتها.
هذا الشريط السينمائي، بقصته المتميزة، وبشخصياته النسائية، ومخرجته الموهوبة، ربما سيتيح فرصة ثمينة لذلك الكهل ليستعيد حلمه، وأمله بالمستقبل، وأيضاً لكي يحقق أمنيته، أو جزءاً منها، على الأقل، ولو من خلال شاشة فضية.