شذى الجبوري
صحافية عراقية عملت سنوات في بغداد ولندن والآن تغطي الشأن السوري
TT

قمة العار

بعيدا عن أخبارنا وصورنا الشخصية، صرنا نطالع يوميا كما هائلا من أخبار الفن والسياسة والمقالات والنكات والاقوال والمواعظ والحكم والقصص والاعلانات والغرائب والصور، لا نعرف مدى دقتها، تصل الى صفحاتنا عبر موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك من الاصدقاء واصدقاء الاصدقاء، اختاروا ان يشركونا فيها عبر الضغط على "شير" أو "لايك"، لكن بعضها لا يخلو من مساومات وابتزاز اخلاقي.
كم مرة تصلنا صورة للمصحف الكريم وتحتها التعليق الآتي: "قمة العار ان ترى صورة القرآن وان لا تضغط لايك"، فلا نملك إلا عمل "لايك" كي لا نوصم بـ"العار".
ومرة صورة من نصفين الأول لفنانة عربية والنصف الآخر صورة لأحد الأماكن التي يحترمها المسلمون، وتحتها تعليق: "صورة الفنانة الفلانية حصلت على مائة ألف لايك، ترى كم لايك ستحصل عليها صورة المكان؟".
لا أعرف من مخترع هذه البدع؟ ولماذا هذه المتاجرة الرخيصة بهذه الأمور من أجل حفنة من "اللايكات"؟ ولا أعرف ما الصلة بين فنانة، مع احترامي وتقديري للفن ولجميع الفنانين، وبين الرموز الدينية التي ينبغي ان تسمو على أي مقارنات أو مساومات دنيوية؟
لم تظهر مرة على صفحتي في الفيسبوك من أصدقاء انجليز او أميركيين صورة تقول مثلا: "المغنية أديل حصلت على مليون لايك، ترى كم لايك ستحصل عليها الكنيسة الفلانية"؟
أحيانا أخرى يحول مشتركون في الفيسبوك الموقع إلى محكمة، يصيرون فيها الخصم والحكم ويصدرون أحكاما بحق الآخرين ويطلبون منا تأييد روايتهم عبر اللايك والتعليقات، فمثلا تظهر صورة مقسمة الى ثلاثة اقسام: الاولى لفتاة في السادسة من العمر، والأخرى لشاب في العشرين، والثالثة لراقصة. وتحتها تعليق: "هذا الشاب اغتصب هذه الفتاة الصغيرة، وهذه والدته وهي راقصة. ووالدة هذا الشاب ستوكل لابنها اكبر محامي في البلد كي يطلع من القضية (مثل الشعرة من العجينة) بعد ان يدفع صديقها رجل الاعمال الثري مبالغ طائلة للمحامي. نريد دعمكم كي يتحول الموضوع إلى قضية رأي عام".
طبعا ننفعل عندما نرى صورة الفتاة البريئة وبجانبها هذا الوحش فنكيل الاتهامات والشتائم عبر التعليقات للشاب وأمه وصديقها رجل الأعمال، دون ان نتمهل برهة لنسأل أنفسنا ما مصدر هذه القصة؟ وهل غرضها التشهير؟ أليست القاعدة القانونية تقول ان المتهم بريء حتى تثبت إدانته؟ وأين الدليل ان هذا الشاب اغتصب هذه الفتاة؟ ومن يثبت ان هذه القصة حقيقة وليست مفبركة من أشخاص يستمتعون بإثارة المشاحنات على الفيسبوك والحصول على أعلى "لايك" وتعليقات" وشير"؟
وهناك عشرات القصص "الساذجة" الأخرى ينشرها البعض للحث على طاعة الله، وكان يمكن ان تكتب بطريقة أذكى لتحقيق الغرض المنشود منها، ومنها أن لصا سرق حقيبة طالبة في الطب، وداخل الحقيبة رسالتها في الدكتوراه بنسختيها الورقية والالكترونية. فتعود الطالبة "المؤمنة" إلى البيت وتتضرع الى الله ان لا يضيع جهدها هباء وان تعود اليها حقيبتها ورسالة الدكتوراه التي قضت سنوات وسنوات في إعدادها. وفي صبيحة اليوم التالي يطرق اللص بابها ويعيد اليها الحقيبة وقد تاب الى وجه الله تعالى، وذلك بعد ان قرأ رسالتها في الطب وأعجب بها أيما اعجاب. فقرر ان يعيد الحقيبة الى صاحبتها بعدما عثر على العنوان داخلها، ثم يطلب المغفرة من الفتاة التي تسامحه "طبعا" بقلبها الكبير.
من يفبرك هذه القصص؟ وما الغرض منها؟ وكيف يتبادلها أشخاص متعلمون لم يسألوا أنفسهم لحظة قبل ان يضغطوا على اللايك كيف ان لصا يقرأ رسالة في الطب فيبهر بها إلا إذا كان طبيبا هو الآخر؟ وافترض طبعا ان انجليزيته لا تضاهى لأن هكذا دراسات تكتب بالانجليزية.
حوادث كهذه قد تقع في الحياة، التي تدهشنا أحيانا بقصص أغرب من الخيال، مع ذلك فانها لا تخلو من المنطق. وبالفعل هذا ما حدث لشقيقتي التي كانت وصلت لتوها الى كندا مهاجرة مع عائلتها، عندما نسيت حقيبة داخل سيارتها تحوي كومبيوترا محمولا بالاضافة الى جواز سفرها وجوازات سفر زوجها واطفالها وهوياتهم العراقية ووثائق الهجرة. تمكن لص من سرقة الحقيبة بما فيها بعد ان كسر زجاج السيارة. أخذت شقيقتي وزوجها يبحثان داخل السيارة وما حولها عن الحقيبة من دون جدوى، وقد أسودت الدنيا بعينيهما، الى ان لمح زوجها كيسا أسود ملقى على قارعة الطريق ليس بعيدا عن السيارة. فتحا الكيس فعثرا على كل جوازات السفر والأوراق الثبوتية. ويبدو ان اللص "الشهم" اختار سرقة الكومبيوتر المحمول فقط وقرر إعادة ما لا ينفعه لأصحابه، وربما أشفق عليهم عندما اكتشف ان ضحايا جريمته مهاجرون من العراق.
شقيقتي حمدت الله كثيرا وقالت في سرها للص: "روح الله يوفقك".