حازم صاغية
مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي.
TT

من أجل النزعة الإنسانويّة

مذبحة في مسجدين نيوزيلنديين، ثمّ مذبحة استهدفت كنائس سريلانكيّة. «داعش» بصراحته المعهودة سمّى الثانية «ردّاً» على الأولى، ثمّ عدّل أبو بكر البغدادي الرواية وقال إنها ردّ على هزائمه في سوريّا. قبل ستّة أشهر حلّت مذبحة في كنيس في بنسلفانيا بالولايات المتّحدة. عناوين ثلاثة كبرى، فضلاً عن العناوين الأصغر كإطلاق النار، قبل أيّام قليلة، قرب كنيس في سان دييغو الأميركيّة.
كثيرون تحدّثوا ويتحدّثون عن حرب دينيّة، أو بالأحرى هويّات دينيّة، مسرحها الكون: نيوزيلندا، سريلانكا، أميركا، ولكنْ أيضاً نيجيريا وبوركينا فاسو والهند والعراق وفرنسا و... وهي حرب جذريّة ومطلقة: «هكذا هكذا وإلاّ فلا لا»، حسب المتنبي.
الحال أنّ عالم الحجج يُفترض أن يزيد على حجّتين؛ واحدة ممتازة وأخرى شنيعة، والممتازة هنا شنيعة هناك. فالحجج تشبه الألوان، حيث الأبيض والأسود والرماديّ، وحيث الأصفر والأخضر، ولكنْ أيضاً حيث تؤلَّف ألوان لا حصر لها من المزج والخلط، ومن تقنيّات تتزايد يوميّاً. أحياناً يكفي تمييزٌ بالغ الدقّة، يطرأ على حجّة معيّنة، كي تولد حجّة جديدة مستقلّة عمّا تمايزت عنه. في هذا، يتدخّل التحفّظ والاستدراك كما يتدخّل التأييد النقدي لرأي ما أو المعارضة التي تُثري ما تعارضه. كلماتٌ كـ«إنّما» و«لكنْ» و«ربّما» هي الوسائط إلى تكثير الحجج وإتاحة المجال للفوارق الصغرى (nuances)، ذات الفعل الكبير.
الحرب الهوياتية المعولمة شيء آخر: إنّها تنهض على الكراهية التي توظّف لخدمتها أدوات قاتلة كتنميط «سوانا»، وتمجيد الذات وتسفيل الآخر، والمعرفة المشوّهة بالتاريخ... لكنّ تأويل النصوص واحد من تلك الأدوات. المتعصبون لهويّاتهم يفعلون ذلك حتى حين لا يكونون مؤمنين. بفعلهم هذا يستدلّون على خلافات بين الأديان يستحيل رأبها، وعلى «ضرورة» التخلّص ممن «يخالفوننا» في العقيدة.
لكنْ بينما يركّز القتلة المتعصّبون على النصوص وتأويلها، ولنتذكّر هنا «مانيفستو» القاتل الأسترالي في نيوزيلندا، يُستحسن استرجاع بعض القيم الإنسانويّة، أو العمل على تعزيزها، حيث هي طريّة العود، كما حالها عندنا. فردّاً على ثقافة تبويب البشر تبعاً لخلفيّاتهم الموروثة، لا بدّ، للظفر في هذه الحرب، من التركيز على الإنسان بوصفه واحداً وبوصفه مركز الكون. ذاك أنّ معاهد البحث ودارسي الفقه واللاهوت يمكنهم أن يهتمّوا بالخلافات، أو بالمشتركات، بين الأديان والتواريخ والنصوص. أمّا ما يمكن تحويله إلى أساس لثقافة تناهض القتل فهو عدم جواز اضطهاد البشر وقهرهم وتعذيبهم وامتهانهم، كائناً ما كان دينهم أو عِرقهم أو نصوصهم.
التعويل إذن على وحدة البشر هو الملحق الثقافي للحرب الذي يواجه الملحق الثقافي لحرب المجرمين، وهو تعويلهم على اختلاف العقائد.
كارثة «الهولوكوست» كانت لتكون مناسبة لعولمة التضامن الإنساني وتكريس نزعة الأنسنة. هذا ما حصل إلى حدّ معقول في الغرب، حيث ارتُكبت الجريمة النازيّة. عندنا، وبسبب النزاع العربي - الإسرائيليّ، حصل شيء آخر: إسرائيل بدل أن تتعاطى معها كشأن إنساني عامّ، تعاطت معها كتكتيك حربي في النزاع المذكور. لقد احتكرت المحرقة وآثرت ألاّ تصدّرها. المسلمون والعرب، من جهتهم، آثروا ألاّ يستوردوها، وإلى حدّ بعيد ألاّ يعترفوا بها. اليوم، في مناخ حروب الأديان والهويّات، بدأ المزاج العكِر للشرق الأوسط ينعكس على الغرب انبعاثاً للاسامية، فيما الأكثر تفاؤلاً بيننا كانوا يتوقّعون حصول العكس.
لكنْ لا بأس هنا بملاحظة هي مزيج من نقد ونقد ذاتيّ. لقد سُجّل مؤخّراً الفارق الكبير بين تضامنـ«هم» «معنا» في نيوزيلندا، وتضامنـ«نا» «معهم» في سريلانكا. هذه كانت إشارة أخرى إلى ضعف النزعة الإنسانويّة لدينا. إنّه ضعف يدفعنا إلى نبش ذواتنا والتفتيش في تضاعيفها المعتمة. يدفعنا أيضاً إلى مراجعة الولاءات الجماعيّة الكثيرة التي نضحت بها ثقافتنا، وتأدّى عنها إضعاف الولاء لمركزيّة الإنسان. في مناخ كهذا، استفحل تبويب البشر وتبرير ذاك التبويب، وراحت الإساءات للإنسان تجد ذرائعها. الدور البارز في هذه العمليّة لعبتْه المبالغة في فكرة العداوة وإضفاء طابع من الديمومة، وأحياناً القداسة، عليها. ثنائيّات الضغينة والقطيعة وُجدت دائماً وتمدّدت: الحاكم والمحكوم. العربي واليهودي. العربي والكردي. المسلم والمسيحيّ. السني والشيعي. السني والعلوي. العربي والأمازيغي. الشمالي - في السودان - والجنوبيّ...
هذا كلّه ضاعفه تعفّن المجتمعات بوصفه حصيلة نقص الحرية ونقص العدالة. النَقصان عزّزا هذا الضمور الإنسانوي، أي بالتالي، هذا الفساد الأخلاقي المشوب بعنف كثير. لكنّنا بالحرية والعدالة وحدهما نفكّر، وبهما نفكّر بشكل أفضل وأرقى، إنسانياً وأخلاقياً. والحرية وطلب العدالة أكثر ما يجمعنا كبشر، وأبلغ ما يخبرنا أنّنا نحمل هذه التسمية وأنّنا جديرون بها.