إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

القصبجي الذي رحل غاضباً

لا مفرّ لنا. هناك مناسبات يجد فيها الصحافي نفسه وقد تحوّل إلى طائر يحطّ على شبابيك الماضي، ينقر على زجاج الراحلين، ما بين مئوية ولادة أو تاريخ وفاة. والدور الآن على محمد القصبجي، الفنان الذي تمرّ هذه الأيام ذكرى رحيله.
إنه المُلحن الذي أطلق أم كلثوم وانتهى جالساً وراءها. نراها في تسجيلات الأبيض والأسود تعتصر منديلها وتنتفض وتطلق الآهات، ونراه يداعب أوتار عوده، في عالم آخر.
ليس من الصعب تمييز القصبجي. رجل لا يشبه سوى نفسه، يسهّل مهمة رسامي الكاريكاتير: جبهة عريضة وعوينات مستديرة وشارب مختصر ووجنتان تقعرتا وبانت عظمتاهما.
وبفضل المسلسل الذي قدمته المخرجة إنعام محمد علي عن كوكب الشرق، تعرفت الأجيال الجديدة على الدور الذي لعبه صاحب الوجنتين المقعرتين في إثراء رصيد الغناء العربي. لكن رتيبة الحفني لم تكن راضية عن شخصيته كما قدمها المسلسل.
وفي حديث معها جرى في باريس قالت إنها شعرت بالغيظ الشديد من تلك الصورة، وكتبت مقالاً في «وجهات نظر» تسجّل فيه اعتراضها. والدكتورة الحفني لم تكن خبيرة موسيقية فحسب، بل عرفت القصبجي منذ طفولتها، وكان من أصدقاء والدها الموسيقار الدكتور محمود أحمد الحفني ويتردد على بيتهم.
لا تنفي الحفني أن القصبجي كان مغرماً بأم كلثوم، لكنها ترى أنه لم يكن يُظهر ذلك. فهو تزوج أربع مرات لا واحدة ولا اثنتين.
ولو كان يحب «الست» فعلاً لما فعل ذلك. والأصحّ أنه كان يعشقها في داخله بصمت وكبرياء. ولم يكن متذبذباً كما رأيناه في المسلسل، ولا كان بخيلاً. كيف يكون بخيلاً من يفتح بيوتاً لليتامى من أقاربه وينفق على 12 طفلاً، يمنحهم كل مليم زائد في يده؟
تتذكر الحفني أنه كان في بيتهم حين نزل عليه لحن «الطيور»، الأغنية البلبلية التي غنّتها أسمهان. فقد اعتاد القصبجي أن يزورهم ليستمع إلى الموسيقى الغربية.
وكانت والدتها الألمانية تقتني الكثير من الأسطوانات. وأثناء استماعه لأغنية بصوت فنانة نمساوية للموسيقار شتراوس، أعجبه تقليدها للعصافير وسارع يستلهم الفكرة دون أن ينقلها أو يقتبسها. تقول إنه فنان كبير واسع العلم والخبرة، لكنه لم يكن بارعاً في التعليم. ولم يمتلك الأسلوب الصحيح لنقل خبرته لتلاميذه.
«كان مثل الحنفية التي تنهمر منها المياه وتتدفق من دون ضابط. وكان علينا أن نفهم ونتعلم من السيل الهابط علينا».
قبل تسعين عاماً، أعطى القصبجي للصوت الجبار أم كلثوم لحن «إن كنت أسامح وأنسى الأسيّة». لمن الكلمات؟ لأحمد رامي، من غيره؟ المُغرم اليائس الآخر. كأنها كانت هرماً يفرض الصمت على من حوله.
كل منهم يتحول إلى أبي الهول في حضرة جبروتها. ينظم لها رامي قصائد عشق لا يتحقق. ويكتب لها القصبجي رسائل شوق وهي مسافرة، يبثها فيها ما لا يجرؤ على التصريح به خارج الورق.
لكن حبه لها لم يمنعه من الدخول في مشاحنات معها. وذات يوم فاض به الكيل وصارح الصحافي اللبناني جورج إبراهيم الخوري قائلاً: «أنا هويت وانتهيت يا أستاذ، خلاص، لم يبق مني إلا أنامل جرداء. قل عني إني بقايا ملحن، بل بقايا شخص.
أنا عملت ما بوسعي وخرجت بأم كلثوم في أكثر من عشرة ألحان قدّمتها لها ولكنها أھانتني. وعندما تُهينني فهذا يعني أحد أمرين؛ إما أني فاشل وهذا رأيها، أو أنها رجعية وهذا رأيي». ونُشر الحديث في مجلة «الشبكة»، وأعادت نقله «صدى البلد».