ماهر نقولا فرزلي
TT

ترمب وشي جينبينغ والنظام العالمي الجغرافي الاقتصادي الجديد

دونالد ترمب، و«بريكست»، واحتجاجات السترات الصفراء التي تعيث فساداً في شوارع باريس – ناهيكم بمسرحية إلقاء القبض على مينغ وانتشو، المديرة المالية لشركة «هواوي» خلال وجودها في مطار فانكوفر الكندي... كل ذلك يؤكد انتقال الاعتبارات غير المسبوقة لـ«مخاطر الدولة» إلى الصدارة، وتحتم على الدُّهاة من صناع السياسات، والمخططين العسكريين البعيدي النظر، والمستثمرين المؤسسيين الأذكياء، إعادة النظر في خططهم الاستراتيجية البعيدة الأمد.
سوف يذكر التاريخ الفترة الممتدة من عام 1980 حتى عام 2018 بأنها العصر الذهبي للنيوليبرالية، الذي شهد سماسرة «وول ستريت» يسيطرون حرفياً على أركان الحكومة الأميركية، ويعيدون بناء العالم على تصورهم الشخصي: دون ريغان (من «ميريل لينش»)، ونيكولاس برادي (من «ديلون، ريد وشركاه»)، كانا من ألمع الأدمغة في إدارة الرئيس رونالد ريغان ووزارة الخزانة في تأمين القرارات الرئاسية أولاً بأول، وتصدر مايكل بلومبرغ (من «سالومون براذرز») الريادة في تطوير مفهوم «التقنيات المالية الحديثة» والذي أصبح من أصحاب المليارات إثر ذلك، ثم تولى منصب عمدة مدينة نيويورك لثلاث فترات متتالية.
لقد أسفرت أعمال هؤلاء وتصرفاتهم الأساسية عن أثر متكافئ وطويل الأمد على السياسات الاقتصادية الأميركية، وكذا بريطانيا (ثاتشر)، والصين (دينغ)، فضلاً عن فرنسا، والاتحاد الأوروبي (جاك تايلور)، وحزب العمال الجديد. كما عملت آيديولوجيا الأسواق المتميزة على تحويل اقتصادات أميركا اللاتينية وشرق أوروبا، فضلاً عن بيروقراطية الاتحاد الأوروبي نفسها، والأحزاب العمالية في كلٍّ من باريس، ولندن، وبرلين؛ وتم الاحتفاء بديلور كنموذج يُحتذى به من قبل أمثال غيرهارد شرودر وتوني بلير وغوردن براون وفرنسوا هولاند (مساعده الأسبق) وإيمانويل ماكرون. وبعد أكثر من 23 عاماً من التقاعد لا يزال المنظّر الفرنسي الكبير يزعم أن العديد من كبار رجالات الخدمة المدنية في الاتحاد الأوروبي قد بدأوا حياتهم المهنية تحت إشرافه ورعايته – بما في ذلك جان كلود يونكر، الذي كان مساعداً لديلور في صياغة معاهدة «ماستريخت» بالاتحاد الأوروبي.
تمكنت الدول على ما يبدو من استيعاب الأزمة المالية الكبيرة لعام 2008 - 2013 بسهولة من جانب مجموعة من خطط الإنقاذ المالية بالقطاع المصرفي على أيدي دافعي الضرائب، والتساهل النقدي (التيسير الكمي)، وتدابير التقشف على مواطني المعاقل الصناعية الكبرى في أميركا وفرنسا وبريطانيا، ولكن، في خاتمة المطاف، ومن خلال التصويت على الخروج البريطاني، وانتخاب دونالد ترمب، وحركة «السترات الصفراء»، كان الناخبون الفقراء للغاية في شمال إنجلترا، وفرنسا، وحزام الصدأ الأميركي الشهير، قد وجّهوا ضربة قاصمة إلى ديلور ورؤيته الساذجة والشديدة التبسط للعالم، حيث يمكن حل المشكلات كافة بمنتهى البساطة من خلال فتح الحدود بين الدول، وتعميق التكامل والتآزر، والتلويح بالعصا السحرية، والانطلاق نحو التفاهم المشترك بين الأمم.
لقد بلغ العصر الذهبي للنيوليبرالية فصل النهاية خلال الأشهر الـ12 الماضية، وشرع «توافق واشنطن» الجديد في الظهور بكل تؤدة وألم، أو بالأحرى يمكن نعته بالتوافق الصيني الأميركي الجديد والذي يضع المصالح الاقتصادية الوطنية الضيقة فوق كل اعتبار آخر. والمفكر والمنظّر الرئيسي للعصر الجديد هو إدوارد إن. لوتواك، المؤرخ العسكري الأنغلو - روماني الذي تحول إلى أحد خبراء الاستراتيجية الاقتصادية، والذي ربما لا يكون من الأسماء المعروفة على نطاق كبير في أوروبا، بيد أن كتبه قد بلغت أعتاب البيت الأبيض حالياً بجانب اللجنة الدائمة للمكتب السياسي الصيني، تحت قيادة شي جينبينغ، إضافة إلى صناع السياسات والمستثمرين المؤسسيين من وادي السيليكون، وفي كوريا الجنوبية، وسنغافورة، وإسرائيل، وهي أربع من أكثر مناطق العالم حيوية ونشاطاً. وأفكار السيد لوتواك التي تدور حول (الجغرافيا الاقتصادية)، التي سخر منها ذات يوم أمثال روبرت نيكسون وديك تشيني (الجغرافيا السياسية ذات المرتكزات العسكرية)، وأمثال جورج سوروس وجاك ديلور (المجتمع المفتوح القائم على الأسواق)، صارت تحظى بالظفر والانتصار في قارات العالم أجمع.
ولكونها واقعة بين فكي كماشة واشنطن وبكين، فإن أستراليا، وكندا، وسنغافورة لديها كوكبة من أفضل الخبراء في مجال الجغرافيا الاقتصادية –كما لديها أيضاً بعض أكبر وأفضل المعاشات التقاعدية وصناديق الثروات السيادية من حيث الأداء والتي، كما سوف نرى، ليست وليدة الصدفة البحتة في شيء. وكما قالت الدكتورة آنثيا روبرتس (من الجامعة الوطنية الأسترالية): «يبدو أننا ندخل في مرحلة جديدة من النظام العالمي الجغرافي الاقتصادي الجديد، والتي تتسم بتنافسية القوى العظمى مثل الولايات المتحدة والصين، والاستخدام الصريح للأدوات الاقتصادية المتاحة في بلوغ وتحقيق الغايات الاستراتيجية للدول. ومن شأن ذلك أن يفضي إلى إعادة هيكلة كبيرة للقوانين والمؤسسات الحاكمة للتجارة والاستثمار الدوليين».
وفي بكين، شاركت الصين في تأسيس بنك الاستثمار الآسيوي لمشاريع البنية التحتية في عام 2014، بمشاركة كل من بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأستراليا في عام 2015، ويعد هذا البنك أول وأكبر مؤسسة مالية فوق الوطنية تتخذ مقرها في عاصمة غير غربية مع الخطط الكبيرة الرامية إلى الاستثمار المشترك مع بلدان نصف الكرة الأرضية الشمالي، وكبار المصرفيين، وأصحاب الأصول الضخمة في أنحاء منطقة آسيا والمحيط الهادئ كافة، فضلاً عن شرق أوروبا، وأواسط آسيا، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تعدها الحكومة الصينية جزءاً لا يتجزأ من مبادرة «طريق الحرير الجديد» العملاقة التي تمتد من حدود بكين إلى آفاق بلغراد مروراً ببغداد.
وحتى صناع السياسات البارعون المؤيدون لشعار «أميركا أولاً» في البيت الأبيض قد أدركوا في نهاية المطاف أنه لا يسعهم تجاهل هذه التطورات الجغرافية الاقتصادية المصيرية بحال؛ ففي نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2018، انطلق نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، مسافراً إلى آسيا، بغية تعزيز رؤية «الهند والمحيط الهادئ» الأميركية التي يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهي الخطة الطموحة التي تساندها عشرات المليارات من الدولارات في صورة قروض جديدة، والآليات الداعمة للائتمان، بهدف تشجيع الاستثمار الخاص في أصول البنية التحتية الإقليمية، مؤكداً أن الشركات، وليست الجهات البيروقراطية، هي المعنية بتيسير الجهود في المرحلة المقبلة: «لقد بدأت اللعبة الكبرى الجديدة، وسوف نتودد بكل دأب إلى المستثمرين في الصناديق التقاعدية من قبل واشنطن وبكين خلال السنوات القادمة، وهو ليس بالموقف السيئ اتخاذه في عصر الجغرافيا الاقتصادية الجديد».

* المدير العام للمجلس العالمي للمعاشات التقاعدية، وعضو المجلس الاستشاري في مرفق البنية التحتية العالمية التابع للبنك الدولي