د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

أخطأ ترمب... ونجح

لطالما وعد الرئيس الأميركي دونالد ترمب إبان حملته الانتخابية بالالتفات إلى العجز في الميزان التجاري بين بلده وبقية بلدان العالم، وانبثقت هذه الوعود من نظرة ترمب إلى العلاقة الوثيقة بين العجز التجاري ومعدلات البطالة في السوق الأميركية، وكانت تصريحاته آنذاك تشير إلى أن الحل الأمثل لخلق الوظائف هو في تعديل الميزان التجاري بين الولايات المتحدة وبقية دول العالم؛ محدداً الصين بعينها في أكثر من مناسبة.
ولذلك كان أول ما بدأ به الرئيس الأميركي هو التهديد بفرض رسوم جمركية على الصين، قادت بعد ذلك إلى حرب اقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم. وبعد سنتين من تولي ترمب رئاسة أميركا - تخللتهما الكثير من التهديدات والاجتماعات والمفاوضات وعشرات التصريحات الحكومية الرسمية من البلدين - جاءت التقارير الرسمية الأميركية لتعلن أن العجز التجاري بين أميركا وبقية دول العالم زاد لأعلى مستوى له منذ عشر سنوات، أي أن كل ما وعد به ترمب وسعى له حظي بفشل ذريع على مستوى مؤشرات العجز التجاري.
وأوضحت الأرقام أن العجز التجاري للولايات المتحدة وصل إلى 621 مليار دولار، وزاد الرقم بنسبة 12.5 في المائة خلال عام 2018 وحده بانخفاض الصادرات الأميركية 6.3 في المائة وزيادة الواردات بنسبة 7.5 في المائة. وزاد هذا العجز حتى مع الصين (المستهدف الأول بالرسوم الجمركية) بأكثر من 43 مليار دولار ليصل إلى 419 ملياراً. وانخفضت الصادرات الزراعية الأميركية للصين بسبب الرسوم الانتقامية المفروضة من الصين، كما انخفضت صادرات الحديد لكندا والمكسيك للسبب نفسه. ومع كل هذه الزيادات في ميزان العجز التجاري، إلا أن الولايات المتحدة اليوم تشهد أقل معدل بطالة منذ وقت طويل، وهو ما يطرح الاستفسار عن واقعية ارتباط العجز التجاري بمعدل البطالة.
يعود الربط بين العجز في الميزان التجاري ومعدل البطالة إلى مراحل التغير في القطاع الصناعي في العقود الماضية، الذي واجه تغييرات في أنظمة حماية الموظفين زادت من تكلفة الموظفين، إضافة إلى تطورات تقنية جعلت كثيراً من المصانع تتبنى أنظمة أتمتة لزيادة إنتاجياتها. هذه التغييرات زادت من البطالة في القطاع الصناعي إما بسبب التقنية، وإما بسبب هجرة رؤوس الأموال إلى بلدان تنخفض فيها تكلفة العمالة. والسبب الأخير تحديداً هو نقطة ربط الرئيس الأميركي بين العجز التجاري ومعدل البطالة، فهو يرى أن هجرة رؤوس الأموال سببت بطالة في سوق العمل الأميركية، إضافة إلى تحول المستهلك الأميركي إلى الاعتماد على الواردات بدلاً من المنتجات المحلية وزيادة الواردات والعجز التجاري بذلك.
والواقع أن هذا السبب صحيح بنسبة بسيطة جداً، فقد وضحت دراسة بين عامي 1991 و2021 أن 85 في المائة من الانخفاض في الوظائف في القطاع الصناعي يعود إلى التطور التقني الذي يزيد الإنتاجية ويقلل الاعتماد على العمالة، وأن 15 في المائة فقط يعود إلى العجز التجاري.
وما حدث الآن يبين أن الربط بين العاملين غير صحيح البتة، فالعجز التجاري في أميركا ارتفع لمستوى تاريخي، وكذلك انخفض معدل البطالة. والمثال الأوضح على عدم الارتباط بين العجز التجاري والبطالة ما حدث مع صناعة السيارات في أميركا، فالرئيس الأميركي استهدف السيارات الألمانية الواردة إلى بلاده لتنخفض هذه الواردات بقيمة 2.5 مليار دولار، بالمقابل زادت مبيعات السيارات الأميركية في الولايات المتحدة موفرة وظائف أكثر للأميركيين، ولكن في الوقت نفسه - وبما أن السيارات الأميركية تستخدم مكونات داخلية مستوردة - زادت واردات المصانع الأميركية من هذه المكونات بما يقارب 10 مليارات دولار، بينما لم تصدّر هذه المصانع أكثر من 1.1 مليار دولار من سياراتها.
والمتأمل في هذه الحالة يجد أن العجز التجاري ارتفع بسبب كثرة الواردات، ولكن في الوقت نفسه زاد النمو في سوق التوظيف. والواقع أن السبب الأول في زيادة العجز هو انخفاض معدلات البطالة نفسه! فمع انتعاش السوق الأميركية وزيادة الوظائف، زاد طلب المستهلك الأميركي من الواردات، وهو ما يوضح أن زيادة العجز التجاري قد تكون مؤشراً جيداً في بعض المرات، وقد لا ترتبط بتاتاً بجودة الاقتصاد المحلي لا سلباً ولا إيجاباً. كما لا يجب إغفال زيادة قوة الدولار التي شجعت في زيادة الواردات وأسهمت في تخفيض الصادرات كذلك.
لم يستطع الرئيس الأميركي الوفاء بوعده بخفض عجز الميزان التجاري لبلده، ولم تنجح خطاباته الشعوبية ورسومه الجمركية في تعديل الميزان التجاري، بل على العكس أضرت به. ولكن ما نجح به الرئيس الأميركي هو خفض معدل البطالة في بلاده، ويعود ذلك إلى نظام الإعفاء الضريبي الذي أقره على الشركات، والذي حفز الشركات على النمو والعودة إلى الاستثمار في السوق الأميركية. وفي هذا دليل قاطع على أن تشجيع الاستثمارات وتسهيلها لرجال الأعمال هو الحل الأمثل لخلق وظائف في سوق العمل، ولا يهم إن كان التدفق التجاري يشير إلى عجز أو فائض، بل المهم هو وجود استثمارات تسهم في دوران عجلة الاقتصاد المحلي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد العالمي.