خليل رشاد
كاتب ومحلل سياسي مصري
TT

أكبر أخطاء أميركا في فلسطين

بسط كوفي أنان، الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة ووسيط جامعة الدول العربية في سوريا، آراءه حول التاريخ، حال تطلعه في الوزراء الذين أجاب دعوتهم للحضور إلى قصر الأمم في جنيف بحلول نهاية يونيو (حزيران) عام 2012، آملا في إيجاد حل للأزمة السورية، حيث قال: «إن التاريخ قاض صارم، ولسوف يقضي بقسوة إذا صرنا غير قادرين على اتخاذ الطريق الصحيح اليوم».
إنها ليست مسألة وقت، إن رؤية كوفي أنان حول التاريخ هي رؤية حتمية وقاطعة.
يبدو أنه لدى هيلاري كلينتون ما تعتقده حول ذلك البيان، وذلك لأنها قامت باقتباسه في الفقرة الأولى من الفصل التاسع عشر في كتابها الجديد «خيارات صعبة». أرى أن أحد الخيارات الصعبة التي تحملتها السيدة هيلاري كلينتون كان إصدار الحكم بشأن أخطاء أميركا. وبقدر ما تسعفني الذاكرة، فإنه حينما كانت السيدة كلينتون تشغل منصب وزيرة الخارجية الأميركية، كانت أول من اعترف بالأخطاء التي ارتكبتها الحكومة الأميركية، وعلى الرغم من ذلك فقد بذلت قصارى جهدها كوزيرة لتبرير الأخطاء الأميركية. غير أنني أعتقد أيضا أن النجاح لم يحالفها في مهمتها تلك.
في الوقت الذي يمكننا فيه التركيز على الأخطاء الأميركية في العالم، وعلى وجه الخصوص في منطقتنا (منطقة الشرق الأوسط) بقدر ما نريد ونرغب، فإن ذلك المسلك يعد غريبا للغاية لسيدة أميركا الأولى السابقة، ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة كذلك. ربما يحلو لها ذلك، أو لعلها تتوق لأن تعتلي سدة الرئاسة الأميركية في الدورة المقبلة، لكن وبلا سابق إنذار، ناقشت السيدة كلينتون الأخطاء التي ارتكبتها أميركا بالفعل.
إن أطول فصول كتاب السيدة كلينتون كان الفصل الخامس بعنوان الاضطرابات، والذي يعالج منطقة الشرق الأوسط، وعلى نحو ما أفردت في كتابها، قالت:
أولا: «لدى الولايات المتحدة دور حيوي تلعبه كدولة رائدة على مستوى العالم» (ص 411).
ثانيا: تعترف السيدة كلينتون قائلة: «سأكون أول من يعترف بأننا، مثل أي دولة أخرى في العالم، اقترفنا العديد من الأخطاء، غير أنني أعتقد أننا إذا أمعنا النظر في السجل التاريخي بكامله، فإن السجل التاريخي يُظهر أننا دائما ما اتخذنا جانب الحرية، وكنا إلى جانب حقوق الإنسان، وكنا إلى جانب الأسواق الحرة والتمكين الاقتصادي».
وأخيرا، وفي مكان آخر، تناقش السيدة هيلاري كلينتون كيف كانت الولايات المتحدة تميل في التعامل مع الأخطاء: «نحن نسعى جاهدين للتعلم من أخطائنا وتجنب تكرارها في المستقبل» (ص 385).
أود التركيز على أحكام السيدة هيلاري كلينتون. وينبغي علينا وضع النقاط الثلاث سالفة الذكر محل الاعتبار. وإذا أخذنا في الاعتبار كذلك الوضع الراهن في قطاع غزة، فكيف يتسنى للسيدة هيلاري كلينتون الزعم بأن الولايات المتحدة اتخذت جانب الحرية والديمقراطية؟
ففي بيان صريح وواضح للغاية في ما يتعلق بالهجوم الإسرائيلي على غزة، والذي نتج عنه مقتل ما يقرب من ألفي فلسطيني، وتدمير المساجد، والمدارس، والمستشفيات، والمنازل، يقول يوري أفنيري: «إن هستيريا الحرب التي طغت على العقل الإسرائيلي أثناء هذه الحرب تحديدا جاءت برفقة موجة من الفاشية المقيتة. فلقد طارد غوغاء لينش العرب في القدس، واستلزم الأمر من الصحافيين مثل جدعون ليفي وجود الحراس الشخصيين برفقته، ووضع أساتذة الجامعات الذين تجرأوا على إطلاق دعوات السلام تحت المراقبة (مبررين بذلك المقاطعة العالمية لإسرائيل)، وجرى إقصاء الفنانين الذين أعربوا عن معارضة نوعا ما معتدلة تجاه الحرب الجائرة».
وخرجت في لندن مظاهرة كبيرة بتاريخ التاسع من أغسطس (آب) لمساندة فلسطين وإدانة إسرائيل، وكان هناك صبي صغير يقف أمامي، وكانت هناك عبارة مطبوعة على قميص يرتديه! ولقد التقطت صورة لقميصه ذلك وعليه العبارة التي تقول:
«الإرهاب هو: نقطة التفتيش على طريقي إلى المدرسة، سرقة أرضي التي أعيش عليها، تعذيب أمي، سجن أبي البريء، ورصاصة تقتل أخي الصغير..».
تظهر تلك الدلائل المعنى الحقيقي الصريح للحرية والديمقراطية في إسرائيل وفلسطين. ليست الحرية والديمقراطية إلا أداتين في القبضة الأميركية، ولا تستخدمهما أميركا إلا لمساندة إسرائيل حيث تعتبرها حجر الزاوية في مصالحها الوطنية وقيمها السياسية. ولكن على الأرض، إنهم يغتالون أطفالنا، ويقصفون المدارس، حتى مع كون تلك المدارس تقع تحت إدارة منظمة الأمم المتحدة. وبالإضافة إلى ما تقدم، تريد أميركا من الدول الإسلامية أن تساند استراتيجيتها للسلام في منطقة الشرق الأوسط.
يكشف غازي القصيبي، أفضل من أي أحد آخر، عن جذور الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط حين يقول:
«يذبحنا (شارون) كالأغنام
يشتمنا الحاخام
يصد عنا عمنا الحنون (سام)
ويراقب العالم ما يجري لنا
كأنه فيلم من الأفلام
ونحن - دون الناس أجمعين! -
حمامة السلام
من قمة.. لقمة.. لقمة..
نصرخ بانتظام:
(نحن مع السلام!)
من محفل.. لمحفل.. لمحفل..
نصيح في الأنام
(نحن مع السلام!)».
يعيش الفلسطينيون في غزة تحت منطقة الحظر الجوي، وذلك بسبب أن سماء قطاع غزة والضفة الغربية تقبع تحت سيطرة إسرائيل. ولا يمكنهم الصيد في البحر، ولا يمكنهم الذهاب إلى أي مكان يشاؤون في وطنهم كذلك. واختصارا، أسست إسرائيل لمنطقة حظر للحياة غريبة للغاية لكل الفلسطينيين. وكمواطن فلسطيني، فأنت إرهابي، وذلك بسبب مقتل ثلاثة مواطنين إسرائيليين في حادثة غامضة ومريبة لأبعد الحدود. ولكن حين تقتل إسرائيل أكثر من 500 طفل فلسطيني، فهي تدافع عن تصرفاتها. فهذا دفاع عن النفس.
ما نوع المعايير التي تستطوعها السيدة هيلاري كلينتون في تنظيرها دفاعا عن الحرية والديمقراطية المزعومتين؟ وبكل أسف، فإن العلاقة بين أميركا وإسرائيل لا يمكن وصفها بالعلاقة الطبيعية. ودعوني أستطرد قائلا إنه لا يمكن حتى وصفها بالعلاقة! فلقد احتلت إسرائيل لب الاستراتيجية الأميركية. واسمحوا لي بالذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، فحينما تشعر إسرائيل بأن الولايات المتحدة لا تتصرف وفقا لما ترغبه الأولى، فإن الإهانة تنال أميركا على الفور.
ولدينا مثال جلي يوضح لنا تلك النقطة، حينما كان السيد جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأميركي، في زيارة لإسرائيل في جولة ودية. وبينما كان السيد بايدن لا يزال على الأرض، أعلنت وزارة الداخلية الإسرائيلية عن خطط لإنشاء 1600 وحدة سكنية استيطانية جديدة في القدس الشرقية. وصرح نتنياهو بأنه ليس هناك ما يستطيع فعله حيال سوء توقيت الإعلان من جانب وزارة الداخلية في بلاده!
هناك مثل رائع يقول: «حب الشيء يعمي ويصم».
إنها قصة حب بين عاشق ثري أعمى (أميركا) وعشيقة مكلفة (إسرائيل).. لا مجال هنالك للحرية والديمقراطية.. والتاريخ قاض صارم كما قال أنان!