جيمس ستافريديس
- أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأميركية وقائد عسكري سابق لحلف الناتو وعميد كلية فليتشر للحقوق والدبلوماسية بجامعة تافتس < بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

كيف يمكن لأميركا أن تنجو من مقبرة الامبراطوريات؟

المشكلات في أفغانستان تبدو مستعصية على الحل وكأنها عدد لا حصر له من الأحبال المعقودة بعضها ببعض، كلما شددت طرفاً انعقد طرف آخر.
وحالياً ترفض «طالبان» الدخول في مباحثات مع الحكومة الأفغانية التي يرون أنها نظام أشبه بالدمية، حيث تصر حكومة كابل على أنَّ أي اتفاق للمشاركة في السلطة يجب أن يسمح ببقاء عدد محدود من القوات الغربية.
فالباكستانيون الذين طالما وفروا الملاذ لقادة «طالبان» لا يرغبون في تشجيع التسوية السلمية بشكل كامل، والولايات المتحدة وشركاؤها في حلف «ناتو» ضجروا من الحرب ويريدون الرحيل، والروس يلعبون دوراً مزدوجاً معقداً، فهم أحياناً يشجعون «طالبان» وفي أوقات أخرى يعملون مع الحكومة، والهند والصين تطمعان في المعادن النادرة وغيرها من النفائس الكامنة في باطن الأرض هناك والتي لا تقل قيمتها عن تريليوني دولار.
لكن هناك مؤشرات قليلة على إحراز بعض التقدم بفضل زلماي خليل زاد الذي عين العام الماضي ممثل الولايات المتحدة الخاص في عملية المصالحة الجارية. أعرف زلماي جيداً، وبحسب المثل القائل «إن لم يكن موجوداً، علينا اختراع وجوده». فزلماي ولد في مدينة مزار شريف بشمال أفغانستان وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة شيكاغو، وعين سفيراً للولايات المتحدة لثلاث فترات (في الأمم المتحدة، وأفغانستان والعراق)، ويعتبر خليل زاد مفكراً مبدعاً ودبلوماسياً رفيعاً.
تمكن زلماي من تحريك الوضع الى مرحلة الحوار الجاد من خلال العديد من التقنيات، منها تغيير عدد من الشخصيات خلال المحادثات وتحاشى جلوس «طالبان» والحكومة الأفغانية سوياً بصورة مباشرة، ونقل مكان اللقاء إلى قطر ثم باكستان وغيرها من المناطق، وإشراك روسيا وباكستان بشكل مؤثر، ومراعاة استمرار التواصل بسلاسة.
جاءت هذه المكاسب نتيجة لحالة الإرهاق التي أصابت الجانبين جراء الحرب. فعندما كنت قائداً أعلى لقوات التحالف الأميركية والأجنبية التي بلغ قوامها آنذاك 150 ألف جندي على الأرض، تمكنا من تحقيق تقدم كبير في الدفع بـ«طالبان» خارج المناطق الحضرية وتعليم الشباب (البنين والبنات للمرة الأولى منذ عهد «طالبان») وتحسين القطاع الصحي مما أدى إلى زيادة متوسط الأعمار. والآن وفي ظل وجود 14000 جندي أميركي (بالإضافة إلى سبعة آلاف جندي من قوات التحالف)، قمنا بتقليص وجودنا العسكري بأكثر من 80 في المائة وتراجعت الخسائر بنفس النسبة تقريباً.
وعلى جانب «طالبان»، يبدو الجيل الجديد من القادة منهكاً من الصراعات، حيث أشار العديد منهم إلى رغبتهم في الحوار بشأن ترتيب اتفاق للمشاركة في السلطة والسماح للنساء بالتمسك ببعض مكاسبهن التي تحصلن عليها، وربما السعي لخلق مناخ للحكم الذاتي يسمح ببعض المرونة فيما يخص تطبيق الشريعة الإسلامية. قد يكون الأهم من كل ذلك هو أن الباكستانيين يبدون متطلعين إلى تشكيل حكومة أفغانية لا تسيطر عليها «طالبان» وحدها.
تمكنت «طالبان» من تحقيق مكاسب على الأرض مؤخراً وقد ارتفعت خسائر قوات الأمن الأفغانية إلى مستويات غير مقبولة، ويدرك الرئيس أشرف غني أن الوصول إلى اتفاق أمر ملح.
تعتبر كل هذه الأمور تغييرات جذرية تعطي فرصة كبيرة للتنفيذ بطريقة دبلوماسية وبتسوية تسمح لـ«طالبان» بالمشاركة في انتخابات عادلة. يتطلب الوصول إلى هذه المرحلة تخلي جميع الأطراف عن مواقفها المتشددة ويمكن تبني نهج مزدوج يساعد الولايات المتحدة في إدارة النتائج، وذلك بجعل الحكومة الأفغانية تدرك أن الصبر قد أوشك على النفاد، وأن مواصلة الضغط العسكري على «طالبان» أمر ضروري.
لخبرة الولايات المتحدة في فيتنام فائدة كبيرة، وهي أنه رغم أن غالبية القوات الأميركية رحلت عن أفغانستان عام 1972، فقد تمسك الفيتناميون الجنوبيون ببقائها لثلاث سنوات إضافية لأن الولايات المتحدة استمرت في تمويل جيشهم. سقطت مدينة سايغون الفيتنامية عام 1975 عندما خفض الكونغرس الأميركي التمويل. ولذلك فإن السماح بإدراك «طالبان» أن الولايات المتحدة قد تعلمت من درس فيتنام وأنها تعتزم مواصلة ضخ المال للجيش الأفغاني والإبقاء على قوة صغيرة لمكافحة الإرهاب لمواجهة تنظيمي «القاعدة» و«داعش» سيساهم في مواصلة الضغط عليهم.
لطالما اعتبرت أفغانستان «مقبرة الإمبراطوريات». فعادة ما يشير هذا الوصف إلى الحكم البريطاني في القرن التاسع عشر وإلى تجربة الاحتلال السوفياتي الفاشلة في القرن العشرين. بيد أن أول أوروبي تمكن من غزو تلك الأرض المرهقة والإمساك بالسلطة فيها قبل كل هؤلاء كان الإسكندر الأكبر قبل أكثر من ألفي عام. ففي روايته الرائعة التي تناولت ذلك الغزو الذي انتهى بالفشل والذي حمل عنوان «حملة أفغانستان»، رسم ستيفن بيسفيلد صورة مفصلة للملك الشاب ولانتصاراته العسكرية ولهزيمته السياسية في النهاية.
قبل أن يبدأ مسيرته في آسيا، تقول الأسطورة إن الاسكندر ووجه بحبال متشابكة ومعقدة يستحيل فكها في مدينة غوديس، وهي تركيا اليوم. وقيل إن من يستطيع فك هذه العقدة سيتمكن في النهاية من غزو آسيا بكاملها.
حاول الملك الشاب المتحمس أن يحل تلك العقدة بيده لكنها ازدادت تعقيداً، وما كان منه إلا أن استل سيفه وقطع الحبل، ثم واصل الزحف ليغزو مصر ومساحات واسعة من آسيا، ومنها أفغانستان.
دعونا نأمل أن يكون زلماي خليل زاد هو الدبلوماسي الذي سيتمكن من قطع عقدة غوردية وأن يكون المفتاح هو إقناع الطرفين بقبول حل وسط قد لا يراه أي من الطرفين حلاً كاملاً لكنه يسمح لأفغانستان بالمضي قدماً.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»