إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

لا تدخل إلى روحي بنعليك

مضى الزمان الذي كانت فيه الأمهات يستحضرن شخصيات خيالية، مثل السعلاة أو الطنطل، لتخويف الأطفال وكبح تحركاتهم. يكفي أن تذكر الواحدة منهن «السعلوة» حتى يجمد الطفل في فراشه ويغمض عينيه وينام... ولو كذبا.
اليوم، تستحضر ربات البيوت الفرنسيات شخصية من نوع آخر، بعد أن رفع عمال الخدمات أسعارهم إلى حدود مبالغ فيها. فلو حسبنا الأجر الذي يطلبه أحدهم لتصليح ماسورة يرشح منها الماء لوجدناه أكبر مما يتقاضاه طبيب القلب في العيادة. لذلك، شهرت النساء في وجه العامل المحلي سيف «السمكري البولوني». والسمكري، أو السباك البولوني، مصطلح دخل اللغة الفرنسية منذ عام 2004 وتحول إلى نوع من التهديد المبطن. إنه المهاجر الجديد الذي يؤدي المهمة بمهارة ونظافة، ويشتغل من دون ثرثرة لأنه لا يتقن اللغة، ويقبل بنصف الأجر الذي يطلبه نظيره الفرنسي.
مع بداية العام الحالي، صار متاحا لمواطني رومانيا وبلغاريا أن يقيموا ويعملوا في دول أوروبا الغربية من دون رخصة مسبقة. إنها القارة الموحدة التي فتحت حدودها لأبنائها يسرحون فيها بالطول والعرض حيثما شاءوا. وقد سمحت فرنسا، بادئ الأمر، لهؤلاء العمال بالعمل في ستين حرفة تعاني نقصا في اليد الماهرة. ثم توسعت القائمة، حاليا، إلى أكثر من مائتي حرفة. ويتوقع الاقتصاديون أن يزحف مليون عامل، كدفعة أولى، نحو غرب القارة للاستقرار في مدنها ومنافسة أهلها على أرزاقهم. لكن صنايعية ألمانيا وبريطانيا، وطبعا فرنسا، لا يحبون سماع هذه الأخبار. وهم يتحسسون أعناقهم كلما جاء ذكر السمكري البولوني... لأن قطع الأرزاق من قطع الأعناق.
لا يحب أهل أوروبا الغربية، أيضا، قوافل الغجر التي تحل في بلادهم آتية من رومانيا وبلاد البلقان. وهناك من السياسيين من يجاهر بأن أبناء الغجر نشالون بالفطرة، ويطالب بطردهم من البلاد، رغم أنهم أوروبيون مثلهم ويدينون بدينهم. فهل يمكن للدول الغنية في القارة العجوز أن تكون انتقائية في وحدتها، تختار ما يروق لها من بني آدمين وتشيح بوجهها عن غيرهم؟ إن لهذا الميل تعريفا هو العنصرية.
والغجر ليسوا ظاهرة جديدة في فرنسا وموجاتهم الأولى جاءت من البلقان في القرن الخامس عشر. ثم تبعتها الموجة الكبرى الثانية مع أواخر التاسع عشر وبدايات العشرين. وقد أطلق عليهم أهل البلاد تسمية «المانوش»، وهي لفظة سنسكريتية الأصل، تدل على القوم الرحل. ومع قيام الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي لفرنسا، جرى تصنيفهم ضمن الفئات «الخطيرة» لأنهم لا يستقرون في بقعة محددة. وصدر مرسوم يحرمهم من حرية التنقل ونقلوا إلى معسكر مغلق، غرب البلاد، وفرضت عليهم أعمال السخرة.
ولأن الحكاية، عندي، تجر الحكاية، فقد وقعت بين يدي رواية حديثة صدرت في باريس للكاتبة باولا بيغاني، تروي فيها سيرة فتاة من «المانوش» عاشت صباها وراء أسوار المعسكر، في تلك الفترة المظلمة من تاريخ البلاد. إن البطلة لا تنسى حملات التفتيش والمهانة التي كان الرجال يخضعون لها على أيدي «الغستابو». ورغم توالي العقود، ما زالت صورة أبيها منطبعة في بالها وهو يصر على أسنانه تحت شاربه الكث، دون أن يخفض عينيه، في مواجهة العسكري النازي الذي يتسلى بإذلاله. لقد حاول شرطي أن يسلب الغجري حصانه بحجة أنه ينشر في المعسكر رائحة كريهة. وكان رد الأب: «إذا أخذتموه فستحملوني معه وقدماي إلى أمام»، أي جثة هامدة. وتكتب بيغاني أن أكبر عقوبة يمكن أن توقع على «المانوش» هي حرمانه من أن يسرح بعربته في الغابات ويخيم على ضفاف الأنهار... يعزف الموسيقى ويغني ويرقص ويشرب نخب الطبيعة.
عنوان الرواية «لا تدخل إلى روحي بحذائك»، وهو مثل غجري قديم، لأن هناك من الأرواح ما يشبه في صفائه أماكن العبادة التي يخلع المصلون نعالهم عند عتباتها. لكن الدنيا تتغير، وها هو السمكري البولوني يأتي إلى بيوت الفرنسيين بالجزمة الكاوتشوك وينتقم لربات البيوت من تجبر عمال الحي.