حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

إنها طبول الحرب... فما تدابيركم؟

أدخل القرار الأميركي القاضي بالانسحاب من سوريا جملة من المتغيرات على المشهد العام في المنطقة.
حالة الستاتيكو التي سادت في العامين الماضيين لم تعد قابلة للحياة، وتضاءلت أكثر فرص البحث عن التسوية السياسية، ويستمر مسار آستانة على حساب مسار جنيف. لكن أدوار الأطراف المتدخلة في الحرب على الشعب السوري هي الآن تحت المجهر، كيف ستدير موسكو الوضع وهل تستمر في سياسة مسك العصا من الوسط؟ وماذا تريد أنقرة؟ وما الذي تسعى طهران لتحقيقه؟ وكيف ستتعامل تل أبيب مع الوضع الجديد؟
التسابق على ملء الفراغ في شرق الفرات انطلق بقوة ولا تبدو الأحلام التركية بالسيطرة على «منطقة آمنة» على امتداد الشمال السوري سهلة التحقق. كل ما تعلنه الرئاسة التركية موجه للداخل للتوظيف في الانتخابات المحلية في مارس (آذار) المقبل، لأنه أمر متعذر من دون ضوء أخضر روسي ودعم أميركي لوجيستي ومادي. لكن أمراً مهماً تحقق وتمثل في تفهم موسكو لما اعتبرته «حاجات للأمن التركي» دفع الرئيس بوتين إلى حثِّ الرئيس إردوغان على تفعيل اتفاقية أضنة لعام 1998، التي تمنح أنقرة عند الحاجة حق التدخل 5 كيلومترات في عمق الأراضي السورية، مقابل علاقة تعاون واضحة مع الحكومة السورية. أي تدخل عسكري تركي مشروط بالاعتراف بالنظام السوري، يستتبع ذلك الإعلان عن بسط النظام سيطرة كاملة على الحدود مع تركيا، وفي الوقت نفسه تدير موسكو حوارا بين دمشق والإدارة المحلية لشرق الفرات من ضمنها «قوات سوريا الديموقرطية» وبالطبع «وحدات حماية الشعب».
خلافاً لتغريدة الرئيس ترمب في 19 ديسمبر (كانون الأول)، سيأخذ الانسحاب الأميركي وقتاً أكبر، وكذلك ملء الفراغ، لكن الاهتمام سيكون منصباً أكثر على ما سيقوم به النظام الإيراني وحدود الأداء الجديد الذي ستقوم به إسرائيل. ففي تل أبيب قائد أركان جديد هو الجنرال أفيف كوخافي وأمامه تقارير استراتيجية جديدة حملت تقديرات للوضع خلال عام 2019 ترجح خطر اندلاع حرب في الشمال. تقديرات طرحت وجوب إدخال تغييرات على العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي، ارتبطت بداية بالانسحاب الأميركي المرتقب من سوريا، وثانياً بإصرار طهران على نشر وجود عسكري فاعل لها، وهو إصرار لم تشطبه كلياً الضربات الإسرائيلية المتلاحقة والموجعة والعمليات الخاصة ضد هذا الوجود، والأمر الثالث تعزز الدور الروسي الميداني الذي لم يعد يقتصر على السيادة الجوية.
ليس خافياً على الجهات المعنية دولياً وإقليمياً الدور المتعدد الأوجه الذي قام به النظام الإيراني في سوريا. من البداية اعتبرت طهران هذه الحرب قضية محورية في تأثيرها على المشروع التوسعي للجمهورية الإسلامية. سوريا عقدة الوصل لمشروع الهيمنة الإقليمي الممتد من طهران إلى المتوسط والحدود مع إسرائيل، لذا دفعت الألوف من عناصر الميليشيات الشيعية من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان إلى الميدان السوري كأذرع للحرس الثوري، ومع إنفاق وُضع بتصرف قاسم سليماني تجاوز 16 مليار دولار سعت طهران بداية لإقامة نقاط ارتكاز مستقلة تتجاور مع القواعد العسكرية السورية، ونجحت بالتسلل إلى البنية العسكرية للوحدات السورية، لكن هذا المنحى لم يحقق المرتجى لأنه كان عرضة للضربات الإسرائيلية، فتل أبيب التي اعتمدت استراتيجية «معركة» بين حربين نجحت بإنزال خسائر كبيرة بهذه الاستراتيجية. غير أن الغارات الإسرائيلية الأخيرة على الكسوة ومحيط دمشق ومطار المزة التي سقط فيها كثير من العسكريين الإيرانيين، فضلاً عن الميليشيات، كشفت أن روسيا لم تتمكن كلياً من إبعاد هذه القوات مسافة 80 كيلومترا عن حدود الجولان المحتل كما كانت قد أعلنت، فميليشيات قاسم سليماني ارتدت زي الجيش السوري وتوجد في قواعد هذا الجيش، ويُمنع هؤلاء من التحدث بغير اللغة العربية، وطبعاً يُعدُّ انكشاف هذا الوضع في غير صالح المخطط الإيراني الذي تدل كل المعطيات أنه لم ينجح أيضاً في تزويد ترسانة «حزب الله» الصاروخية بأجهزة تزيد من القدرة على تسجيل الإصابات الدقيقة، كما أن عملية «درع الشمال» كشفت استراتيجية الأنفاق ودمرتها.
الجديد ما يشاع عن بدء تزويد الميليشيات الإيرانية بوسائل دفاع جوي، والجديد أيضاً أن موسكو التي قالت مرارا إن الأمن الإسرائيلي أبرز أولوياتها، أعلنت أن الجيش السوري سيكون قادراً بدءاً من مارس المقبل على تشغيل المنظومة الدفاعية S300 الأمر الذي قد يحد من حجم الضربات الجوية الإسرائيلية، وهذا بالضبط ما عجل بالحديث عن تقديرات استراتيجية إسرائيلية جديدة، لأن تل أبيب المتفوقة عسكرياً اليوم لن تقبل بمنح طهران فرصة البقاء المجاني كي تشكل خطراً لاحقاً عليها.
الحرب لن تقع غداً وبالتأكيد ليس قبل الانتخابات الإسرائيلية في أبريل (نيسان) المقبل، وربما ليس قبل تشكيل التحالف الذي سيحكم بعد هذه الانتخابات، لكن إمكانية وقوعها كبيرة. كل المعطيات تفيد بأن تل أبيب تضع في حسابها اليوم استغلال الانتشار الإيراني على امتداد المنطقة الذي يعتبر حالة ضعف في أي مواجهة مفتوحة.
في عدد «الشرق الأوسط» أمس السبت، رجح السفير دونيس روس وهو مسؤول سابق في الخارجية الأميركية أن الحرب قد تبدأ من لبنان وتنتشر إلى سوريا والعراق وتصل إلى طهران، ومعروف أن كلَّ الحروب الإسرائيلية بعد حرب عام 1973 لم يكن هناك تخطيط كبير لها فحرب تموز 2006 تمت إثر خطف «حزب الله» جنديين إسرائليين (قتلا خلال العملية) ومثلها أكثر الحروب على غزة، هذا يعني أن لبنان في قلب الخطر ويزيد القلق أكثر إذا كان صحيحا ما تعممه جهات مقربة من «حزب الله» عن تراجع جاهزية الجيش اللبناني، الأمر الذي يضع كل المسؤولين اللبنانيين أمام المسؤولية الحقيقية عن التدابير المفترضة لحماية البلد وأهله، خصوصا أنه إلى جانب الاستهداف الإسرائيلي الدائم للبنان، هناك أطماع وأهداف نظام الملالي، الذي إذا وجد له مصلحة فلن يتورع عن إشعال الفتيل، وكل اللبنانيين يتذكرون عبارة السيد حسن نصر الله إبان حرب تموز عام 2006: «لو كنت أعلم»!