إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

الشاعر والرادار

يقول المثل إن الزَمّار، أي عازف المزمار، يموت وإصبعه يلعب. والأمثال خلاصة تجارب الشعوب. وقد لا يفهم الفرنسيون زماميرنا لكنهم يعرفون الرادارات المنصوبة على الطرقات السريعة. ما إن يثقل السائق قدمه على دواسة البنزين حتى يلمع فلاش خاطف من صندوق مبهم على القارعة، ويجري تصوير السيارة وينال صاحبها غرامة باهظة لتجاوزه السرعة القصوى المقررة.
خلال الشهر الماضي، هاجم المتظاهرون من أصحاب السترات الصفراء العشرات من تلك الأجهزة وكسروا معدنها وأتلفوها. وهي اليوم ملفوفة بأكياس البلاستيك المخصصة لجمع القمامة. كأنها مكفّنة بأكفان سود ولا أحد يندبها بل يشمت بها. يتنفس السائقون الصعداء لأنها لم تعد تصلح لالتقاط الصور التي تثبت عليهم تهمة التجاوز. لكن يبدو أن رادارات فرنسا مثل زمّاري القرية، تعمل حتى بعد التلف. وها هي الصحف تنشر بياناً لإدارة المرور يؤكد أن نسبة مخالفات تجاوز السرعة زادت عشرين في المائة خلال الأسابيع الفائتة. يا فرحة ما دامت. ويوضح البيان أن تلك الأجهزة ما زالت تقوم بتسجيل المخالفات لكن كاميراتها عاطلة، وبالتالي فإنها عاجزة عن التقاط الصور لأرقام السيارات المتجاوزة. دامت الأفراح.
ليست أصابع الزمّارين هي ما يتحرك فحسب. فعلماء الطبيعة يحذّرون من أن الأفاعي السّامة، مثل الكوبرا وذات الأجراس، تلدغ حتى بعد موتها بعدة ساعات. يقولون إن اللدغ ردة فعل انعكاسية، يقوم جسم الأفعى بتنشيطها حتى بعد قطع الرأس. ويمكن لبعض الثعابين أن يتخذ وضعية الهجوم والارتفاع عن مستوى الأرض، حتى وهو مقتول حديثاً. أي أن دمه لم يبرد بعد. هل للأفعى دم؟ نعم، لكنه ليس أحمر. وكانت توصف بأنها من الزواحف ذوات الدم البارد. لكن يكفي أن تلمس جسدها فتتحفز أعصابها وتتفتح قنواتها وتسمح بمرور الجسيمات المشحونة كهربائياً. وعندها تنتفض العضلات في رد فعل انعكاسيّ، رغم غياب الرأس. إنه شيء يشبه ما يحدث، أحياناً، للسيارات حين يستمر محركها في الدوران لبرهة من الزمن، حتى بعد إطفاء مفتاح التشغيل. «باك فاير». وترجمتها: النار المُرتدة. وما أكثر النيران المرتدة في أزمات هذا العالم. هي مثل القطط بسبع أرواح. يقطعون رأس «داعش» فتتحرك الأذناب.
وما يصدق على الأفاعي يصدق على البشر. وهناك نوع من أوجاع الجسم يسميه العلماء الألم الشبحي. يشعر به الشخص في أطراف تعرضت للقطع. وكان الظن أنها مجرد هواجس وأوهام نفسية تنتاب المريض بعد بتر ذراع أو ساق. ثم أقرّ الأطباء بأن استشعار الألم ظاهرة طبيعية تنشأ في الحبل الشوكي والدماغ. والغريب أنها لا ترافق عمليات البتر فحسب، بل يمكن أن تصاحب استئصال أعضاء أخرى، كالثدي أو اللسان. لنتصوّر لساناً مقطوعاً يشتاق للنميمة.
لاحظ جراحو زراعة القلب أن عضلته يمكن أن تستمر في النبض، دون أكسجين، لنحو من خمس دقائق، بعد استئصاله من جسم المريض. وفي الدقائق الثلاث الأولى يمكن استعادة نشاط العضلة. لكن القلب يتوقف عن الخفقان حالما تموت خلاياه. ولست حكيمة قلوب لكنني أنحني وجلاً أمام أسرار الطبيعة. وأميل إلى تصديق المحبين الذين يؤمنون بخفقة خالدة. وأحفظ أبيات إيليا أبي ماضي:

«ليت الذي خلق العيون السودا
خلق القلوب الخافقات حديدا
يا ويح قلبي أنّه في جانبي
وأظنه نائي المزار بعيدا
فإذا هفا برق المنى وهفا له
هاجت دفائنه عليه رعودا
هي نظرة عرضت فصارت في الحشا
ناراً وصار لها الفؤاد وقودا»

ما حيلة أصحاب السترات الصفر إزاء النظرات ورادارات قلوب الشعراء؟