ليونيد بيرشيدسكي
TT

اليسار الأوروبي أوشك على الموت

على مدار سنوات، بدا واضحاً أن الأحزاب السياسية الاشتراكية التي كانت لها الهيمنة ذات وقت على أوروبا تعاني حالة انهيار، وقد استمر هذا الحال خلال عام 2018. ومع هذا، يملك اليسار اليوم المعلومات التي يحتاجها للخروج من هذه الأزمة، وقد شرع في استغلالها لتوه.
من الواضح أن الهزائم الساحقة التي مني بها اليسار الأوروبي خلال عام 2017 (الموت شبه المحقق الذي تعرض له الحزب الاشتراكي في فرنسا، وانكماش الديمقراطيين الاشتراكيين في ألمانيا، وحزب العمل في هولندا، علاوة على انكماش الجناح اليساري بأكمله داخل جمهورية التشيك) لم تكن كافية لتشكل صيحة تنبيه، ولم تتمكن الأحزاب المهزومة من استعادة شعبيتها، بل وبعضها (مثلما هو الحال مع الديمقراطيين الاشتراكيين في ألمانيا) شهدت شعبيتها مزيداً من التردي في استطلاعات الرأي. كما أنهار تيار يسار الوسط في الانتخابات الإيطالية، مما أفسح الطريق أمام حزبين شعبويين للسيطرة على مقاليد السلطة. وفي السويد، تراجع تأييد الحكومة التي يقودها الديمقراطيون الاشتراكيون، في خضم انتخابات غير حاسمة، وهي تبدو اليوم عاجزة عن المضي في الحكم.
داخل المملكة المتحدة، عجز حزب العمال عن اقتناص السلطة من حزب المحافظين الذي تعصف به الخلافات، ويتحرك تحت قيادة رديئة. ويعود السبب الأكبر وراء ذلك إلى أن حزب العمال ذاته منقسم على نفسه بشأن قضايا كبرى، مثل «بريكست» والدرجة المبتغاة من إعادة توزيع الثروة. وبعيداً في البرازيل، خسر حزب العمال الانتخابات الرئاسية.
اليوم، خمس دول فقط من أعضاء الاتحاد الأوروبي تحكمها حكومات يسارية أو من يسار الوسط؛ هي اليونان وسلوفاكيا ومالطا والبرتغال وإسبانيا. ولم يفلح سوى اشتراكيي إسبانيا في الفوز بالسلطة عام 2018. ولم يأتِ ذلك عبر انتخابات، وإنما من خلال انقلاب برلماني استثنائي. وفي اليونان، من المحتمل أن تفقد كتلة ائتلاف اليسار الراديكالي (سيريزا) السلطة هذا العام. وفي إسبانيا، تبدو أحزاب يمين الوسط في وضع أفضل من الاشتراكيين، فيما يخص الانتخابات المقبلة، أياً ما كان موعدها. وخلال انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة عام 2019، تشير غالبية الاحتمالات إلى أن التحالف التقدمي للاشتراكيين والتقدميين (حزب مظلة ليسار الوسط) سيكون أكبر الخاسرين، بينما من المتوقع أن يفوز اليسار الموحد الأوروبي - اليسار الأخضر الشمالي ببضعة مقاعد، ولكنها ربما لن تكون كافية لمعاونة تيار اليسار بأكمله على تعويض خسائره.
ثمة ثلاثة تفسيرات مقبولة لهذه الأزمة: أولها، وهو التفسير الشائع في أوساط اليساريين أنفسهم، أن الأحزاب التقليدية اتخذت منحى خاطئاً في أماكن أخرى. وفي كتابه الصادر عام 2017، بعنوان «منعطفات خاطئة: كيف ضل اليسار طريقه؟»، شرح العالم الاقتصادي بروفسور إدارة الأعمال البريطاني جيفري هودجسون أنه في أعقاب إقرار حلول وسط مع الرأسمالية منذ خمسينات القرن الماضي، أخفقت الأحزاب الاشتراكية وأحزاب العمال في طرح «بديل مقنع وعملي وديمقراطي للرأسمالية» في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008.
أما التفسير الثاني، فيتعلق بتغير هيكل الطبقات داخل المجتمع. ويرى أنصار هذا التفسير أن الطبقة العاملة القديمة اختفت، وأخذت معها القاعدة التقليدية للأحزاب اليسارية. وتبعاً لهذا التصور، فإن البروليتاريا القديمة حل محلها في قاع الهيكل الهرمي الطبقي طبقة جديدة يطلق عليها «بريكاريا»، تضم أشخاصاً يعملون في خدمة الاقتصاد، مع فرص ضئيلة ورغبة لا تذكر في التنظيم، وغالباً ما يكون هؤلاء مهاجرين تفصل بعضهم عن بعض اختلافات ثقافية. وبالتالي، فإن اليسار التقليدي ليس لديه ما يمكن أن يقدمه لهم.
وأخيراً، يتسم التفسير الثالث بطابع أكثر راديكالية عن التفسيرين الأولين، ذلك أنه يشير إلى انهيار كامل منظومة اليسار - اليمين التقليدية، ويصفها بأنها مفرطة في التبسيط بالنسبة لمجموعة العوامل المعقدة التي تؤثر اليوم على الميول والنزعات السياسية.
رغم أنني لست يسارياً، فإني أرى أن العالم الغربي له مصلحة في بقاء اليسار التقليدي، وذلك لأنه يملك سجلاً مؤكداً على صعيد جعل المجتمعات أكثر عدالة، وتقييد النزعات الإمبريالية، وتقصير أمد الحروب. كما شكل اليسار ثقلاً موازناً طبيعياً للنزوع الطبيعي لدى اليمين تجاه مناصرة الشركات والآلات العسكرية الكبرى.
ولا يتعين على اليسار التخلي عن دوره فيما يخص هذه الأدوار المهمة، لكنه بحاجة إلى التزام الوضوح بخصوص ثلاث قضايا: من الذين يمثلهم؟ وما القيم التي يمثلها؟ وكيف يمكنه توصيل أفكاره؟
وتتضمن قاعدة الدعم الجديدة لليسار مجموعات متنوعة، منها الموظفون الحكوميون المؤمنون بالمهمة الإيجابية للدولة، والطبقات المبدعة، والمفكرون المناصرون للحرية، وطبقة العمال التي يتهددها الخطر، وتشعر بأنها تتلقى معاملة مجحفة من جانب نظام يجري التلاعب فيه لصالح الأثرياء. وتشترك جميع هذه المجموعات في مصلحة واحدة: العدالة والإنصاف.
وفي تلك الأثناء، هناك سبل شتى لتناول مخاوف جميع فئات الجماهير المختلفة. ويشكل الاندماج مع الخضر سبيلاً مثمراً للمضي قدماً بالنسبة لليسار التقليدي، نظراً لأن الناخبين يتحركون على ما يبدو بحرية بينهما. ففي ألمانيا، على سبيل المثال، أدى تراجع الديمقراطيين الاشتراكيين إلى صعود الخضر الذين حلوا محلهم، كثاني أكثر حزب شعبية على مستوى البلاد هذا العام.
والملاحظ أن اليسار الأخضر تخلى عن الأفكار التقليدية لإعادة توزيع الثروة، ويقترح بدلاً منها برامج تؤكد على ضرورة توفير التدريب والعمل للمعوزين، بدلاً من مزيد من الدعم المالي. وفي حين يدعو لمزيد من الإنفاق بمجال التعليم، فإنه يدعو كذلك لحكومة أصغر ومنظومة سياسية أكثر انسيابية.
واللافت أن التركيز على العدالة والإنصاف والليبرالية الاجتماعية منع كثيراً من السياسيين من الحديث بحرية عن الجانب المظلم للهجرة، ولم يخدم هذا الأمر المهاجرين كثيراً. إلا أن مناصرة الهجرة، مثلما هو الحال مع غالبية اليساريين والسياسيين المهتمين بالبيئة، لا ينبغي أن يعني تقييد المرء لنفسه بنفسه، ومنعه من التعبير بحرية.
وفي وقت تشعر فيه الأحزاب التقليدية اليوم بيأس بالغ، تبدو فرصة مثالية تلوح في الأفق أمام أحزاب اليسار للدخول في تحالفات جريئة، خصوصاً مع الخضر. وينبغي على اليسار استغلال الفرصة كذلك في التعلم والتجريب، بدلاً من انتظار معدلات التأييد السابقة للعودة من جديد.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»