د. عبد الله فيصل آل ربح
أكاديمي سعودي, أستاذ مشارك لعلم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية جراند فالي الأميركية, وزميل أبحاث غير مقيم بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة. نشر العديد من الأبحاث المحكمة في دوريات رصينة, إضافة لنشره لعدة دراسات في مراكز الفكر بواشنطن. ومن أهم إصداراته كتاب «المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو: تغطية المملكة في القرن العشرين»
TT

زمن الـ «ريد بيل»

استمع إلى المقالة

مَن يتابع منصة «X» سيلاحظ ازدياد التفاعل مع الحسابات والوسومات التي تحمل مسمى الـ«Red pill» أو «الحبة الحمراء»، التي تُسوّق للثقافة الذكورية، ومناهضة السردية النسوية في العلاقة الجندرية بين الرجل والمرأة.

يستند أنصار الريدبيل إلى فكرة التفوق البيولوجي للرجل على المرأة، ليس من ناحية قوة العضلات فقط وإنما من ناحية أفضلية الزمن التي تخدم الرجل أكثر من المرأة. فهم يُجادلون بأن الأنثى تبلغ قبل الذكر، ومن ثم فإن وقت الذروة في قيمتها في سوق التزاوج يكون قبل أقرانها من الذكور، الذين يحتاجون إلى سنوات لبناء القيمة التي تجعلهم قادرين على المزاحمة والتفوق في سوق التزاوج.

وفي هذا الصدد، يستشهد الريدبيلرز (جماعة الحبة الحمراء) بأن الرجل الذي يعتني بصحته، إلى جانب نجاحه المهني يكون في قمة الجاذبية وهو في سن الأربعين، بينما تفقد المرأة كثيراً من نضارتها وجاذبيتها في تلك السن. ويزيدون على ذلك باستشهادهم بالحقائق البيولوجية حول انخفاض التبويض وصعوبة الإنجاب للمرأة التي لم يسبق لها الإنجاب قبل الأربعين.

هذا الطرح يُواجه من قبل أصحاب الطرح النسوي بأنه عنصري وهجومي، ويُلاحظ أن الردود النسوية على الحبة الحمراء تعتمد في مجملها على الخطاب الثقافي، وليس على الحقائق البيولوجية. وحتى عندما يطرحون أدلتهم البيولوجية بأن الخصوبة تظل متوفرة عند المرأة مع تقدم العمر، يأتيهم رد جماعة الحبة الحمراء، بأن استدلالاتهم ليست أكثر من شذوذ يؤكد القاعدة.

وبعيداً عن مسألة العمر الزمني، يجادل أصحاب الحبة الحمراء بأن المرأة تنجذب للرجل بيولوجياً بناءً على شكله الذكوري وجيناته الجيدة، ما يجعله في نظرها رجل «ألفا» قويّاً، تعطيه تلك القوة جاذبية عليا. وأنه في حال قبلت بالارتباط بشخص غير جذاب شكلاً، فإنه ليس أكثر من «بيتا» واقع تحت رحمة غيره، الذي يستطيع التخلص منه متى ما وجد خياراً أفضل منه. ويطلقون على ذكر الـ«بيتا» لقب «المزود». والمقصود مزود الخدمات لمن لم تجد رجل «ألفا» يشبع لديها غريزة الارتباط الفوقي القائم على الرغبة الحارقة.

وتأتي فكرة الرغبة الحارقة من الانجذاب البيولوجي المنفصل تماماً عن المصالح المادية. فالمرأة/الأنثى تنجذب للرجل/الذكر بناءً على جاذبيته الطبيعية القائمة على جيناته الجيدة، وشكله الذكوري، وشخصيته القوية. هذه الجاذبية التي يطلقون عليها مصطلح «الرغبة الحارقة» أمرٌ لا يمكن تعويضه بالمال والهدايا والسفر، فهي صفات أصيلة في الشخص، تم الحفاظ عليها بناءً على وعي الرجل بمكانته القائمة على الاستحقاق الجندري الذي تم رفده بتنمية القدرات الطبيعية التي يمتلكها.

إن فكرة الاستحقاق الجندري القائم على ترسيخ الرجولة بصفتها عنصراً قيادياً في المجتمع تتواءم مع فكرة «الارتباط الفوقي» التي يجادل الخطاب الذكوري بأنها غريزة لدى الأنثى التي تبحث عن ذكر ذي قيمة عالية، يرفعها اجتماعياً وبيولوجياً. فالرجل يوفر المكانة الاجتماعية بإنجازاته، ويقوم بتمرير جيناته عبر المرأة التي تحمل سلالته.

بعيداً عن تبنِّي هذا الخطاب من عدمه، فإن تزايد انتشاره والترحيب به على منصات التواصل الاجتماعي دليلٌ على تناغمه مع جماهيره، الذين يرفضون سردية الخطاب النسوي القائمة على محورية المرأة في العلاقات الاجتماعية. ولو أردنا تطبيق النظريات السوسيولوجية هنا، فإن التفاعل الرمزي خير ما يمكن الاستناد إليه لقراءة العلاقة المعقدة بين الرجل والمرأة.

ولتحليل ديناميكيات التوازن في التبادل العلائقي بين الرجال والنساء في موضوع الارتباط، يمكن الاستعانة بالإطار النظري للتبادل الاجتماعي لريتشارد إيمرسون، الذي يقول إن قوة طرف ما في العلاقة تساوي اعتماد الطرف الآخر على المكافآت أو العوائد التي يوفرها. أي أن علاقة التبادل تكون متوازنة إذا كان كلا الطرفين يعتمد على بعضهما البعض بشكل متساوٍ فيما يتعلق بالموارد التي تُحدد قيمة الشخص في سوق التزاوج، وفي الحياة الاجتماعية بشكل عام. فإذا كان الاعتماد بشكل متساوٍ بين الطرفين فإن ميزان القوة متساوٍ.

إن الفكرة المركزية القائلة بأن القوة تستند إلى مدى الاعتماد (الشعور بالحاجة لـ/الرغبة في الطرف الآخر)، الذي يولِّد التبعية تسمح بتحديد الطرق التي يتم بها تغيير التبعيات، بحيث تؤثر على توازن القوة في علاقة التبادل وشبكات علاقات التبادل عموماً، ومن ضمنها تلك التي بين الرجل والمرأة.

ومن ثم، فإن قيمة الإنسان لا تنحصر في الموارد التي يمتلكها فحسب، بل في مدى الطلب عليها في سوق التزاوج بشكل عام، ومع الشريك المستهدف بشكل خاص. فإذا كنتَ ثريّاً وتستهدف أنثى يهمها المركز الاجتماعي أكثر من الثراء، فثراؤك ليس بنقطة القوة التي تستطيع أن يكون فيها «ألفا» عند تلك المرأة.

الأمر نفسه ينطبق على المرأة؛ فعندما تكونين جميلة بالمواصفات المتعارفة لدى مجتمعك، في حين تستهدفين رجلاً يؤمن بمعايير مختلفة للجمال، فإن جمالك ليس نقطة قوة تجعلك في موقع فرض الشروط.

الـ«ألفا» يحاول أن يتفوق على نفسه في المجال العام، بأن يستثمر في الموارد التي تضعه في المقدمة من باب المبادرة لمعالي الأمور. ومن أهم مميزاته، تقدير الذات، بأن يكبح جماح ميله لمن لا تبدي له الرغبة الحارقة. بالمقابل، يجب تذكر أن السردية النسوية تشجع المرأة على أن تفعل الشيء ذاته في علاقتها التبادلية مع الرجل.

وهنا تحكم الطبيعة البيولوجية والبناء الاجتماعي فيمن تكون له الكلمة الفصل من خلال نظرية إيمرسون في التبادل الاجتماعي، التي تُسمى قوة الاعتماد (power of dependence)، حيث تفترض هذه النظرية أن اكتساب القوة يستلزم جعل الطرف الآخر معتمداً عليه من خلال حيازة شيء يقدّره.

أخيراً، فإن وجود هذا الحوار الثقافي على منصات التواصل الاجتماعي ظاهرة صحية توضح أهمية النقاش المعرفي القائم على أسس علمية، وعدم حصر هذا النوع من الحوارات على الدين والسياسة. فالعلاقة الجندرية وفكرة «سوق التزاوج» أمرٌ يلامس حياة كل الأفراد، وليس مجرد ترفٍ معرفي، كما هي الحال في كثيرٍ -وليس كل- الحوارات السياسية والدينية التي تشهدها وسائل التواصل الاجتماعي.