ليونيد بيرشيدسكي
TT

على بيكتي خلع «السترة الصفراء»

الخبير الاقتصادي البارز توماس بيكتي لا يحرق السيارات ولا يشوه وجه قوس النصر. ومع هذا، يحمل «بيان لإقرار الديمقراطية في أوروبا» الذي وضعه تشابهات لافتة مع المطالب التي يرفعها المتظاهرون الفرنسيون. وسيكون من الخطأ السعي إلى استرضاء أصحاب «السترات الصفراء» من خلال تطبيق جزء مما ورد بذلك البيان.
وتتضمن الإصلاحات التي اقترحها بيكتي ومجموعة من المثقفين والسياسيين بناء مجلس أوروبي، يملك سلطة صياغة ميزانية مشتركة وفرض ضرائب مشتركة، وهو أمر يتطلب في الوقت الراهن موافقة بالإجماع من جانب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
ويدعو بيكتي إلى أربع إجراءات يرى أنها ستسمح بجمع ما يعادل 4 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي لأوروبا:
* زيادة معدل الضرائب على الشركات إلى 37 في المائة بجميع أرجاء أوروبا، من متوسط 22 في المائة حالياً، مع دفع الشركات الأكبر ضرائب أكبر عن تلك الأصغر.
* فرض ضريبة إضافية على أصحاب الدخول الأعلى، بحيث تفرض ضريبة بقيمة 10 في المائة على الدخول التي تتجاوز 100 ألف يورو سنوياً، تتضاعف إلى 20 في المائة لمن يحصلون على أكثر عن 200 ألف يورو سنوياً.
* فرض ضريبة ثروة بقيمة 1 في المائة على العقارات التي تتجاوز قيمتها مليون يورو و2 في المائة على تلك التي تبلغ قيمتها 5 ملايين يورو أو أكثر.
* فرض ضريبة على الانبعاثات الكربونية.
بالتأكيد لن يرضى أصحاب السترات الصفراء عن مقترح فرض ضرائب أوروبية موحدة بقيمة إجمالية تعادل 4 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي لأوروبا، خاصة وأن ضرائب الوقود التي فرضها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هي التي أشعلت المظاهرات بادئ الأمر. إلا أن المطالب الثلاثة الأخرى تحمل أصداء الدعوات لفرض ضرائب أكثر على الشركات الكبرى والأثرياء وأصحاب الدخول الكبيرة. وربما لا يكون لدى المتظاهرين البيانات المتاحة لدى بيكتي والتي تكشف تراجعاً هائلاً في الضرائب على الشركات والأخرى المفروضة على أصحاب الدخول المرتفعة منذ ثمانينات القرن الماضي، مع تعويض هذا التراجع عبر ضرائب غير مباشرة أعلى، لكن لدى المتظاهرين شعور داخلي بأن الأثرياء يزدادون ثراءً بينما يزدادون هم فقراً ويحملون العبء الأكبر من الضرائب.
ومن المحتمل ألا يرضى أصحاب السترات الصفراء عن الأسلوب الذي يقترحه بيكتي لإنفاق الأموال التي يجري جمعها، فهو يرغب في إعادة الأموال التي يجري جمعها مباشرة إلى الدول الأعضاء، كي تتمكن من تقليل ضرائب القيمة المضافة والإسهامات الاجتماعية التي يدفعها الموظفون. أما باقي المال فسيجري إنفاقه داخل البلاد التي تفرض فيها الضريبة، لكن على برامج مشتركة - أكبرها برنامج لتمويل الأبحاث الجامعية.
ولا أعتقد من جانبي أن المتظاهرين المناهضين لطبقة النخبة سيوافقون على منح ربع الأموال التي يجري جمعها من الأثرياء إلى المؤسسات الأكاديمية، أو توجيه أموال ضخمة على جهود انتقالية بمجال الطاقة، مثلما يرغب بيكتي. وإنما تتركز أنظار المتظاهرين بدرجة أكبر على إقرار حد أدنى أكبر للأجور وزيادة المعاشات.
وتكمن المشكلة الأساسية المتعلقة بعملية إعادة التوزيع التي يقترحها كل من بيكتي وأصحاب السترات الصفراء ليس في طريقة الإنفاق، وإنما في كيفية الحصول على المال، ذلك أن المقترحات المطروحة تشكل فعلياً عودة إلى السياسات المالية التي سادت سبعينات القرن الماضي.
ومن المؤكد أن الكثير من أصحاب الشركات سيتضررون جراء الضرائب الإضافية على الدخل. وحتى إذا كانوا يحصلون على 100 ألف يورو سنوياً أو أكثر، فإنهم ربما لا يعتبرون أنفسهم أثرياء. وتبعاً لتقرير الثروة العالمية الصادر عن «كرديت سويس»، فإن أكثر من 2.1 مليون شخص داخل فرنسا يملكون أصولاً تزيد قيمتها عن مليون دولار، معظمها في صورة عقارات. ومعظم هؤلاء الأفراد ليسوا من شديدي الثراء، وإنما أغلبهم رجال أعمال متواضعين ومهندسين وأصحاب دخول معقولة يحصلون عليها من وظائف تنافسية تتطلب مجهوداً شاقاً. وقد يؤدي فرض ضرائب أكبر عليهم إلى الإضرار بهم ودفعهم للفرار إلى الولايات المتحدة وآسيا. ولن تفلح أي مبالغ مالية مهما بلغت ضخامتها توجهها الحكومة إلى الجامعات في إصلاح هذا الضرر الجسيم الذي يمكن أن تسببه تلك الضرائب لاقتصادات تواجه بالفعل صعوبة بمجال الإبداع والابتكار.
أما بالنسبة لمسألة فرض ضرائب أعلى على الشركات، فإنها تبدو أقل منطقية في ظل بيئة تغض الطرف عن إجراءات معقدة تتخذها الشركات بالفعل للتهرب من الضرائب. والمؤكد أن الشركات متعددة الجنسيات التي لا تلتزم بالمعدل الحالي للضرائب من المحتمل بدرجة أقل أن تلتزم بسداد الضرائب الأعلى المقترحة. إن جني مزيد من الضرائب يتطلب سد الثغرات القائمة، وفي بعض الأحيان فرض الضرائب على العائد وليس الربح، مثلما وافقت فرنسا وألمانيا على تنفيذه فيما يتعلق بشركات الإنترنت التي تعتمد على الإعلانات عبر شبكة الإنترنت.
في الواقع، هناك بعض الأسباب السلبية وراء تراجع ضرائب الدخل بالنسبة للشركات والشريحة الأعلى من الطبقة الوسطى: ظهور ثغرات جراء العولمة واشتعال التنافس الضريبي. وهناك أسباب إيجابية أخرى: الحاجة لتحفيز الاستثمار والأبحاث التي تجريها الشركات والإقدام على المخاطرة. ولا توجد بيانات توحي بأن تلك السياسات تفتقر إلى الفاعلية. في الواقع، لم ترتفع معدلات الفقر في أوروبا مقارنة بما كان عليه الحال خلال حقبة الضرائب المرتفعة.
وبذلك من غير الواضح ما إذا كانت مسألة فرض ضرائب أعلى على «الأثرياء» والشركات سيكون من شأنها حل أية مشكلات، ناهيك عما ذكره بيكتي بخصوص إنقاذ أوروبا نفسها.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»