حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

بنو يعرب والعاصفة الفرنسية

أشد ما يلفت النظر في الاحتجاجات العنيفة للابسي السترات الصفراء في فرنسا، ورد الفعل الأعنف لحكومة ماكرون، أن فرنسا التي كانت الرحم التي زُرعت فيها نطفة «الديمقراطية» التي تكاثرت في العالم كله وتفجرت فيها قديماً الثورة الأشد عنفاً في أوروبا ضد الملكية المطلقة وتسلط الكنيسة، قد أمست «تهتز» بعنف عوداً على بدء، وهذا يذكرنا بالإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس فأصبح اتساعها مهدداً في الجزيرة البريطانية التي تغيب عنها الشمس بفارق لا يزيد على الساعة الواحدة، فهذه أسكوتلندا التي على وشك الانفصال، وويلز التي تزاحم لغتها «الويلشية» اللغة الإنجليزية لغة الكرة الأرضية، إذن هي سنة الكون التي دبجها الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغر بطيب العيش إنسانُ
أما بنو يعرب، فقد وظفت تياراتهم السياسية والفكرية المتنازعة احتجاجات فرنسا الدامية لصالحها، وكل فريق ينظر لهذه الأحداث من ثُقب هواه وزاوية ميوله، فخصوم الديمقراطية يقولون: «شفتوا»؟ ألم نقل لكم إن الديمقراطيات الغربية غطاء زائف لواقع بئيس؟ فها هي أعمال العنف والتخريب والسلب والنهب والاعتداءات على الممتلكات العامة والخاصة تحدث باسم الديمقراطية وحرية التعبير ومقتضيات حقوق الإنسان، فلا تجدون مثل هذه الأعمال العنيفة في البلاد التي مجَّت الديمقراطية ولَفَظَتْها.
أمَّا أنصار الديمقراطية العرب المولعون بنسختها الغربية، فيقولون: ما تشهده فرنسا من احتجاجات، ولو اتسمت بالعنف، فهي الضمانة دون شيوع الاستبداد والاستفراد بالسلطة، فالسُلَّم الجماهيري الذي ارتقى عليه الزعامات للوصول إلى السلطة هو ذاته السُلَّم الذي يُسقطهم من شاهق الحكم.
وبعض العرب شمَّ من دخان الاضطرابات الفرنسية بعض نسائم «الربيع العربي» ليعتبره «ربيعاً فرنسياً» بامتياز، بل «شطح» بعضهم في تصوير الحدث الفرنسي على أنه كرة ثلج تكبر كلما تدحرجت وستحدث تغييرات هائلة في أوروبا وأميركا.
ويبقى نظام بشار الأسد هو اللافت في التوظيف السخيف للأحداث الفرنسية بطريقة تبعث على الضحك والشفقة والازدراء في آن، فالإعلام الرسمي، كما يقول أحد الصحافيين، ينشر الصور والفيديوهات التي تُظهر الحرائق والخراب في الشانزليزيه، مقارنة بـ«الحياة الطبيعة والهادئة في ساحة الأمويين في العاصمة دمشق»، إضافة إلى مقاطع فيديو توثّق العنف الممارس من قبل السلطة على أصحاب «السترات الصفراء» ومقاطع فيديو أخرى توضح «التآخي والانسجام بين المواطنين السوريين والسلطات، حيث يسير المواطنون بجانب العساكر بكل أمان في دمشق»، وكأن العالم لم ير عشرات البلدات التي دُمرت بالكامل، وملايين القتلى والمصابين والمشردين.
ولم تخلُ بعض الدول «الأعجمية» من حالة التندر والتهكم بالاحتجاجات العنيفة في باريس، فالرئيس المثير للجدل ترمب غرد في «تويتر» ساخراً فقال: «المتظاهرون الفرنسيون يهتفون: نريد ترمب!!»، مما اعتبرته الحكومة الفرنسية المشغولة باضطراباتها تدخلاً في الشأن الداخلي الفرنسي.
الاضطرابات الفرنسية اضطربت في تحليلها وقراءتها عقول عربية وتاهت في دراستها وأخذ العبرة منها بعيداً عن التجاذبات الحزبية والفكرية.