ليونيد بيرشيدسكي
TT

بين أسانج وزوكربيرغ

الآن وبعد أن علمنا، ربما بفضل خطأ ارتكبه، على ما يبدو، ممثلو الادعاء في الولايات المتحدة، أن جوليان أسانج قد وجهت إليه الاتهامات سرا بارتكاب جريمة ما داخل الولايات المتحدة، ومن المثير للاهتمام فعلا إعادة قراءة مقال يرجع إلى ثماني سنوات كتبه مدير التحرير في مجلة «التايمز»، ريتشارد ستينغل، يقارن فيه بين مؤسس «ويكيليكس» جوليان أسانج ومؤسس شركة «فيسبوك» مارك زوكربيرغ.
ففي عام 2010، منحت مجلة «التايمز» مارك زوكربيرغ سمة شخصية العام، على الرغم من أن قراء المجلة قد صوتوا لصالح جوليان أسانج. ولتبرير موقف المجلة، رسم ريتشارد ستينغل خطأ موازيا بين الشخصيتين.
بمعنى من المعاني، يعتبر السيدان زوكربيرغ وأسانج وجهين للعملة ذاتها. فقد أعربا عن رغبتهما في الانفتاح والشفافية، كل في مجاله. ففي حين يناهض أسانج الحكومات والمؤسسات بسلاح الشفافية غير الطوعية راغبا في نزع التمكين وتقويض الأركان، يحاول زوكربيرغ تمكين الأفراد عبر الشفافية الطوعية من مشاركة المعلومات إثر فكرة التمكين الذاتي. ويرى أسانج العالم كمكان مفعم بالأعداء الحقيقيين والمتصورين، في حين أن رؤية زوكربيرغ للعالم تتعلق بمكان مفعم بالأصدقاء المحتملين. ولدى كلا الرجلين ازدراء واضح للخصوصية، وفي حالة أسانج يرجع ذلك إلى شعوره بأنها تسمح للشر بالتفشي والاستفحال على نطاق كبير، وفي حالة زوكربيرغ يرجع ذلك إلى أنه يعتبرها من الفوضوية الثقافية، وعائقا كبيرا من عوائق التواصل المفتوح والفعال بين الناس.
ويعكس هذا التحليل وجهة نظر متفائلة بشأن مقدرة «فيسبوك» على تمكين الناس وتواصلهم كما كان شائعا في عام 2010. وتتناقض هذه المهمة بسلبية جهود ومساعي جوليان أسانج الواضحة: كشف الأعداء الحقيقيين والمتصورين.
وتبدو المقارنة الآن أكثر اختلافا من وجهة نظر عام 2018 الحالي.
فكما تبين لاحقا، فإن فكرة زوكربيرغ عن التمكين والتواصل أسفرت عن مضاعفة الانقسامات في واقع الحياة مثالا بالعلاقات الجيدة بين الناس، ولقد قيل بما يشبه الإقناع إن «فيسبوك» يساعد على تأجيج نيران الكراهية والعنف. وفي بلد تلو الآخر حول العالم، كان «فيسبوك» هو المنصة المفضلة لدى الجميع لانتشار الأخبار المزيفة خلال مختلف الحملات الانتخابية، وتحول إلى منصة «غرف الصدى» المتماثلة التي تعكس الأفكار المتشابهة نفسها ذات التحاملات المسمومة ضد المخالفين. ووفقا لمقال «كاشف» نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» هذا الأسبوع، فإن عملاق التواصل الاجتماعي قد حاول التغطية على إخفاقاته الكثيرة والنزوع إلى التلاعب في الرأي العام بهدف التخفيف من آثار ردود الفعل العنيفة ضده.
ولا يبدو أن زوكربيرغ يدرك حتى الآن مدى الضرر الذي تسبب فيه. ففي مقال نشر بتاريخ 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، تفاخر زوكربيرغ بأنه خلال الربع الثالث من عام 2018، تمكنت شركة «فيسبوك» من الوقوف بشكل استباقي على نحو 63 في المائة من خطابات الكراهية التي أزيلت من حسابات ميانمار، ارتفاعا من نسبة 13 في المائة الضئيلة المسجلة في الربع الأخير من عام 2017. وإنني أشكك في أن ذلك قد أحدث فارقا يُذكر لصالح أقلية الروهينغا المنكوبة في ميانمار، الذين كانوا هدفا لأعمال العنف المريعة الناجمة عن أعمال التحريض الموجهة عبر مختلف صفحات وحسابات شبكة «فيسبوك».
أما أسانج، من جانبه، فقد واصل عمله في نشر الوثائق المسربة هنا وهناك. وهناك أدلة تفيد بأن شبكة ويكيليكس قد حاولت الاستيلاء على البيانات، وربما لم تلتزم حد الاستقامة في أساليب الحصول عليها (تزعم الشبكة بجمع المعلومات فقط من المصادر التي تطوع بها المبلغون). وعلى الرغم من ذلك، ظلت الشبكة المشاكسة ملتزمة بالهدف الأصلي المتمثل في نشر الوثائق الأصلية للتسريبات.
ووفقا لما ذكره المستشار الأميركي الخاص روبرت مولر، كان كل من «فيسبوك» و«ويكيليكس» بمثابة قناة داعمة للآلة الدعائية الروسية بهدف التأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016. ولكن في حين أن شبكة ويكيليكس نشرت رسائل البريد الإلكتروني الأصلية المسربة، وغير المُجرّمة بصفة خاصة، التي استولت عليها أجهزة الاستخبارات الروسية من كبار أعضاء الحزب الديمقراطي الأميركي على ما يبدو، فإن شبكة «فيسبوك» قد سمحت للمتصيدين وغيرهم من عملاء الدعاية الروسية بشيطنة هذه المواد والوثائق عبر نشر الأخبار المزيفة ذات الصلة. ومن ثم تكون منصة الإعلام الاجتماعي العملاقة قد ساهمت في انتشار التلفيقات والمدونات المزيفة التي دعت إلى التظاهر والاحتجاجات الوهمية والمثيرة للمزيد من الانقسام.
وهناك تباين شخصي هائل بين مارك زوكربيرغ، الثري صاحب المليارات، لين الحديث، والمؤيد للأعمال الخيرية، والمنعم بالزواج السعيد، وبين جوليان أسانج، المقاتل، المنفرد، غير المرتب، الذي يعتمد على التبرعات، والذي يقبع في عزلة يائسة ومتزايدة في سفارة الإكوادور في لندن، التي التمس اللجوء إليها في أعقاب إصدار السويد أمرا بإلقاء القبض عليه، فيما يتعلق بارتكابه جرائم جنسية في بلاده. (ولقد نفى أسانج تلك الاتهامات كلها، وتم إسقاطها عنه في وقت لاحق). ولكن عندما يتعلق الأمر بأي من الرجلين قد ألحق أكبر الأضرار بالولايات المتحدة وبالعالم، فإنني أقول إن مارك زوكربيرغ هو الأكبر سوءاً.
ربما أدت بعض التسريبات التي أفصح عنها أسانج إلى تهديد مباشر لمصالح الاستخبارات الأميركية. ولكن هذا من قبيل المخاطر المعيارية المتعلقة بنشر أي معلومات غير مصرح بنشرها بشأن الحكومات. وليس أسانج أول المسربين ولن يكون، كما آمل، آخر من يكشف عن هذه المعلومات للجمهور. ومن دون هذه التسريبات، تكون الرقابة الجماهيرية على أعمال الحكومات ضربا من ضروب المستحيل، كما ظهر لدى الصحافة في الولايات المتحدة من خلال التقارير المبنية على التسريبات بشأن إدارة الرئيس ترمب.
بيد أن كشف «فيسبوك»، من ناحية أخرى، لبيانات المستخدمين الشخصية لخدمة الحملات السياسية، لا يخدم الصالح العام في شيء، بل إنه يسهل من عمليات التلاعب بالناخبين الأكثر عرضة للتلاعب بأصواتهم في الانتخابات، ولا سيما الشريحة الأقل تعليما من المواطنين.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»