رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

السعودية ومواجهة الاستهداف والاستنزاف

جاء خطاب الملك سلمان بن عبد العزيز أمام مجلس الشورى، مؤكِّداً على ثوابت المملكة، وكاشفاً بالتالي لأسباب الاستهداف من جهاتٍ متعددة ومتناقضة أحياناً، ولا يجمعها غير معاداة السعودية. وأولى هذه المسائل القضية الفلسطينية التي أعطاها الملك الأولوية بين القضايا العربية والإسلامية التي تُعنى بها المملكة وتعتمدها في سياساتها الخارجية العربية - الإسلامية، والدولية. والمعروف أنّ المملكة هي التي قدمت المبادرة العربية للسلام عام 2002 في قمة بيروت بقصد إيجاد حلٍ عربي للمسألة الفلسطينية. وكان المأمول جمع دعم كبير لها لاستنادها بالكامل إلى القرارات الدولية ذات الصلة. لكنّ ذلك كان بعد العام 2001 ومصائبه، وعلى مشارف غزو العراق، ونشوب حروب الشرق الأوسط المختلفة التي ألْهتْ عن كل شيء. وكما في حرب الخليج الثانية، كذلك في السنوات العشرين الأخيرة؛ فإنّ الفلسطينيين كانوا هم أشدّ المتضررين، ولعدة أسباب: الانقسام الفلسطيني، والاستيلاء على غزة عام 2007. وحمل الإيرانيين للراية الفلسطينية، وقد اكتسب عملهم زخماً بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات، وسيطرة فئات يمينية ومتطرفة من الإسرائيليين على مقاليد السلطة في الدولة العبرية. والباقون عرباً في هذا الزمن الرديء، لا يواجهون هذه المصاعب والابتزازات وحسْب؛ بل بين التحديات دخول تركيا إردوغان وقطر على الخطّ للاتّجار بالقضية الفلسطينية. ومع من يتاجرون؟ مع إسرائيل وإيران. هل يمكن لأحد حفظ الحقوق الفلسطينية من طريق العمل مع إسرائيل؟ لقد وصلت أموال لـ«حماس» من طريق مطار بن غوريون، ولا يعرف أحدٌ متى تثور «حماس» ومتى تكمن إلاّ إيران وإسرائيل! سيقول البعض: لكنّ الفلسطينيين محتاجون جداً للدعم، ولا يؤثر ذلك على قرارهم بالقتال! بدليل أنهم قاتلوا إسرائيل بالصواريخ بعد ثلاثة أيام من وصول الدعم. ثم إنّ هؤلاء ليسوا وحيدين في العلاقة مع إسرائيل، وهناك دول عربية بينها وبين إسرائيل معاهدة سلام. وأنا أقول: تمام، فلماذا لا تصل وجوه الدعم لفلسطينيي غزة - إذا كان دعماً نزيهاً - من طريق مصر؟ بالطبع، لأنّ العلاقات سيئة وسبب سوئها أنّ قطر تؤوي خصوم النظام في مصر، وتعتقد أنّ بالإمكان إسقاط النظام من طريق تلفزيون «الجزيرة»!
أما إردوغان فيريد أن يتزعم أهل السنة العرب وغيرهم، كما تتزعم إيران الشيعة العرب. وقد كنت في العام 2013 مع الرئيس السنيورة في زيارة له إلى تركيا، فعرض إردوغان التوسط بين الحكومة اللبنانية و«حزب الله» ولأنه صديق إيران، ووقتها قال له الرئيس السنيورة: نحن لسنا سنة وشيعة، بل نحن عرب، ومرجعياتنا في السعودية ومصر. وقد اخترتَ يا حضرة الرئيس (أظنه كان رئيساً للحكومة) بشار الأسد مدخلاً للعلاقة مع العرب، وها أنت قد اختلفت معه. وقد تكون إيران صديقاً لكم، لكنها ليست صديقاً لنا، وإلا فكيف تسلط على بلدنا وعلى السنة بالذات ميليشيا مسلحة قتلت وتقتل في لبنان، وقد أعلنت الآن عن دخولها للقتل في سوريا! إردوغان رأى نجاح إيران في رفع الراية الفلسطينية فانضمّ إليها، وبسبب الاختلاف العربي على كل شيء، والخواء الاستراتيجي راح يطمح لتزعُّم أهل السنة ومن ضمن ذلك إيواء «الإخوان» الذين يستهدفون مصر والسعودية، ولا يكلّفه ذلك إلاّ «شويّة كلام» كما يقال، لأنّ هناك من يموّل تحركاته الاستعراضية، التي يعتقد أنها تنسي الجميع ارتكاباته ضد مئات الآلاف من الأتراك والأكراد.
وإلى كل هؤلاء الخصوم والمنافسين ومدّعي نُصرة فلسطين من الإسلامويين والقوميين، أُضيفَ الأميركيون المتحمسون جميعاً لإسرائيل، الذين يريدون المزايدة على بعضهم. ترمب قام بأعمال جُلَّى لإسرائيل كما هو معروف. لكنّ الصحافة والإعلام المرئي والديمقراطيين، كل هؤلاء يريدون الإسهام في «صفقة القرن» إذا أمكن، والمعلومات تقول إنّ الذين حضّروا الأفكار العظيمة للصفقة بينهم ديمقراطيون وجمهوريون وخبراء غير حزبيين؛ لكنهم جميعاً صهاينة متشددون أو ليبراليون!
كل هذا التراكم والركام الذي صارت إليه القضية الفلسطينية، تمسكت خلاله المملكة بالثوابت: الخطة العربية للسلام، ورفض إعطاء القدس لإسرائيل، وعقد مؤتمر القمة العربية بالظهران وتسمية القمة قمة القدس، والوقوف مع السلطة الفلسطينية، واحتضان «الأونروا» بسبب الموقف الأميركي منها. وضمناً قالت المملكة إنّ فلسطين العربية وقلبها القدس هي قضية عربية وإسلامية، ولا يجوز الاتّجار بها لا من الإيرانيين ولا من الأتراك. ولهذا الموقف عقباته ومسؤولياته، وتدرك المملكة ذلك، ولن تتراجع لا أمام الخصوم والأعداء، ولا أمام أهل التجارة.
أما الملف الثاني الذي تحدث عنه الملك سلمان، فهو ملف التطرف والإرهاب. وهو ملفٌّ تزايدت تعقيداته، وتصاعدت التجارة فيه من كل جانب. نعم هناك انشقاقٌ له أصول دينية، وما بقي أحدٌ إلاّ ودخل عليه واستغلّه، وفي الطليعة إيران وميليشياتها المنتشرة في العراق وسوريا ولبنان. وفي السنوات الأخيرة، وعندما تفاقمت الظاهرة، وقفت السعودية في الطليعة بالسلاح، وبالاستخبارات وبالتعاون مع المنظمات الدولية، بينما كان الآخرون يتدافعون كلٌّ من جانبه لإعطاء تسهيلات للإرهابيين. والتسهيلات التركية معروفة منذ العام 2013. وقبلها النظام السوري عام 2012. ومن وراء الطرفين بالمال وبالاتصالات قطر. ولا تستطيع المملكة لا في سياساتها ولا في أخلاقها إثارة النزاعات الداخلية، ولا مساعدة هذا المتطرف العنيف أو ذاك بحجة أن عدو عدوي صديقي! التطرف العنيف ضد الدين وسلامه وسلامته، وضد وحدة الدول واستقرارها. وهذا الذي أعلنه الملك سلمان في الموقف من الوضع في سوريا. بينما عرض آخرون قبل أيام الدعوة إلى تحالف مع إيران وتركيا والعراق وسوريا وقطر، وضد ماذا ومَنْ؟ وما الذي جمع الشامي على المغربي، كما يقول المثل المصري؟ يريد الداعون جمعهم على العداء للمملكة. المملكة همُّها سلامة الدين، وسلامة الدول العربية، والآخرون يلتمسون أدواراً ليست لهم بالمال السائب الذي علّم الناس الحرام! إنّ الذين يريدون مكافحة التطرف لا يجمعون أُناساً ممن هبّ ودبّ لضرب الاستقرار في دول العرب ودينهم. وموقف المملكة من التطرف والإرهاب، سواء أكان إرهاب ميليشيات أو دول، هو المكافحة أو يختلط الحابل بالنابل.
ولنصل إلى ملفّ اليمن، وهو ليس معقداً مثل الملف السوري. لقد حاول الحوثيون الاستيلاء على أرض اليمن ودولته بطلبٍ من إيران، مثلما حصل في غزة وبيروت - بعد أن كان اليمنيون قد توصلوا بالحوار وبالمبادرة الخليجية إلى اجتراح حلولٍ لمشكلاتهم. ومنذ اليوم الأول للاستيلاء سارع الحوثيون إلى إطلاق النار على الحدود مع السعودية. وبطلبٍ من الحكومة الشرعية ولإنفاذ القرار الدولي رقم 2216 تدخلت دول التحالف لحماية الاستقرار في شبه الجزيرة، واستعادة الشرعية في اليمن. فما الذي حصل؟ كلما تقدمت قوات الجيش بدعمٍ من التحالف، لإنهاء الانقلاب الحوثي إداة إيران، تصرخ الجهات الدولية من أجل الملف الإنساني. والشعب اليمني في حالة سيئة في الأصل، وزاده الانقلاب تأزماً وسوءاً. لكنّ إنهاء مأساة اليمن، لا يكون إلاّ بإنهاء السيطرة الحوثية، وهو ما لا يريده كثيرون، لإبقاء اليمن والسعودية تحت الاستنزاف. لو سلّمت السعودية بصفقة القرن، وباستيلاء «الإخوان» على مصر، والحوثيين على اليمن، لما عادتها الـ«واشنطن بوست» ولا «نيويورك تايمز». لكنّ مملكة عبد العزيز، وفيصل، وسلمان، لا تكون هي نفسها، إن سلّمت بشيء من ذلك. وعلى العرب جميعاً أن يعرفوا أنّ الصراع الذي تقوده السعودية هو صراعٌ لحماية رؤوسهم وإرادتهم وأرضهم ودينهم: «والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».