صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

إيران تقترب من «المتوسط» والثمن الفادح ستدفعه تركيا!

حتى الآن، وما دامت إيران تواصل الحفاظ، وبقوة، على تمددها العسكري والأمني والسياسي، وكل شيء في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن أيضاً، فإنه أمر طبيعي أن تسعى إلى ما هو أبعد من هذا التمدد، وأن تكون لها قاعدة بحرية متقدمة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالية؛ لا بل وفي المنطقة «الاستراتيجية» الأكثر خطورة وأهمية، وهي لواء الإسكندرون الذي احتله الأتراك في لحظة عربية مريضة في عام 1939، وأطلقوا عليه اسم «هاتاي».
إن الواضح؛ لا بل المؤكد، أن إيران قادرة على الصمود في وجه العقوبات الأميركية بنسختها الثانية، رغم كل ما يقوله الأميركيون، ورغم ما يؤكدونه في اليوم، ما دامت لا تزال تحافظ على تمددها في هذه الدول العربية التي تتمدد فيها، وما دام لها هؤلاء الحلفاء الذين تفرض مصالحهم عليهم أن يضعوها في حدقات عيونهم، والذين لديهم الاستعداد للدفاع عنها ومساندتها بالقوة العسكرية، وحتى بالأسلحة الفتاكة المحرمة دولياً إذا لزم الأمر!
لقد أكدت روسيا، وعلى ألسنة كبار مسؤوليها، وفي مقدمتهم الرئيس فلاديمير بوتين، وقوفها إلى جانب إيران كحليف استراتيجي، وهذا ينطبق على دول الاتحاد الأوروبي كلها، وإنْ بحدود معينة. وهنا فإن المستغرب فعلاً أن تركيا اتخذت هذا الموقف نفسه، مع أن المفترض أنها تدرك أن تطلعات هذه الدولة، التي دأبت على التطلع إلى ما وراء حدودها، إنْ في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وإنْ في عهد ما بعد ثورة عام 1979، وإنْ قبل ذلك بكثير، أي في المرحلة «الصفوية»، لن تقف عند تمددها الحالي في العراق وفي سوريا وفي لبنان واليمن أيضاً، وأنها رغم زمجرات الأميركيين وتهديداتهم، مصرة على أن يكون لها وجود مسلح وقاعدة عسكرية بحرية، على الشواطئ المتوسطية الشمالية.
ويقيناً، وما دام لإيران كل هذا التمدد الاحتلالي في تلك الدول العربية، وما دامت قادرة على تصدير نفطها وبكل هذه الكميات المعلنة، وبكميات أخرى غير معلنة، من خلال روسيا وتركيا، وربما أيضاً من خلال بعض دول الاتحاد الأوروبي في مرحلة لاحقة، وبعض الدول الآسيوية والأفريقية، فإنها بالمحصلة وفي النهاية ستُفشِل العقوبات الأميركية، إنْ بنسختها الثانية، وستفرض نفسها كقوة رئيسية في هذه المنطقة، وفيما هو أبعد منها. وهنا وفي هذا المجال، فإن من يشك في هذا عليه أن يراجع مسيرة التاريخ البعيد والقريب، ليس في الشرق الأوسط، وإنما في الكرة الأرضية كلها.
على الأميركيين أن يدركوا أنه كان بإمكان نظام صدام حسين أن يبقى حتى الآن، لو لم تتم إزاحته بالقوة العسكرية، وهذا ينطبق على كثير من الأنظمة القمعية في العالم بأسره، ما يعني أنه بإمكان نظام الملالي هذا، الذي ظروفه وأوضاعه أفضل بألف مرة مما كانت عليه ظروف الرئيس العراقي الأسبق، أن يصمد في وجه كل هذه العقوبات الاقتصادية والمالية التي فرضت عليه، وأن ينتقل من مواقع وخنادق الدفاع إلى مواقع وخنادق الهجوم، ما دام له كل هذا الوجود الاحتلالي في هذه الدول العربية الآنفة الذكر.
وإن عليهم أيضاً ألا يبقوا ناظرين إلى هذه المنطقة، التي تقع إيران في قلبها، بعيون مصابة بالحول، فهذه منطقة بالنسبة لهم ولغيرهم في غاية الأهمية، ولهذا فإن عليهم أن يدركوا أن عقوباتهم هذه قد تؤثر على الإيرانيين ولكن بحدود معينة بإمكانهم استيعابها، ما دام الأميركيون يواصلون الدوران حول أنفسهم بالنسبة لهذا التحدي الذي لا يهددهم وحدهم؛ بل يهدد أيضاً هذه المنطقة كلها، التي هي منطقة مصالح حيوية واستراتيجية بالنسبة للغرب كله، وللعالم بأسره!
والغريب أن الولايات المتحدة لم تتحدث حتى الآن، عن إسقاط هذا النظام، وأنها لم تبادر إلى أي إسناد جدي لقوى المعارضة الإيرانية «مجاهدين خلق» على سبيل المثال، وللأقليات القومية الثائرة، وكأنها لا تزال تراهن على إصلاح هذا النظام من داخله، وكأنها تعتقد بأن هناك فرقاً بين خاتمي وخامنئي، وأنه بالإمكان استدراج حسن روحاني إلى توجه غير توجهه الحالي.
إن هذه مسألة، وأمّا المسألة الأخرى فهي أن الواضح أن الأميركييين يغمضون عيونهم حتى لا يروا حقيقة أن هذه الـ«إيران» تقوم حالياً بإنشاء خط حديدي أنجزت منه حتى الآن ما تجاوز حدودها مع العراق، يربطها بشواطئ البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من مدينة اللاذقية السورية، وعلى تماس مباشر مع لواء الإسكندرون.
الآن يسيطر الإيرانيون عسكرياً وأمنياً على ما كان بشار الأسد قد أعلن عن أنه «سوريا المفيدة»، والآن هناك وجود عسكري إيراني في شرق الفرات، في منطقتي البوكمال ودير الزور السوريتين، وهذا يشكل امتداداً لمثل هذا الوجود داخل الأراضي العراقية، والواضح أن وصول الإيرانيين إلى البحر المتوسط وإنشاء قاعدة عسكرية لهم هناك، على بعد أقل من مرمى حجر من لواء الإسكندرون، بات تحصيل حاصل إذا بقي الأميركيون يتصرفون بكل هذا التراخي الذي يتصرفون به الآن.
ثم، ولعل ما يزيد كل هذه التطورات خطورة ومأساوية، أن تركيا تضع يديها في ماءٍ بارد، رغم أنها ترى كل هذا الخطر الإيراني المتجه نحوها بكل هذا الإصرار، وكل هذه القوة، وأن الرئيس إردوغان، إنْ لم يدرك أن وصول الإيرانيين إلى الشواطئ المتوسطية الشمالية يعني أن لواء الإسكندرون لن يبقى جزءاً من الدولة التركية، فالمعروف - وهذا تتم الإشارة إليه بغاية التردد والصعوبة - أن أهل هذا اللواء كله وبكل مدنه الرئيسية، هم من الطائفة العلوية التي لها الوجود الرئيسي أيضاً في منطقة اللاذقية، وفي مناطق جبلة وطرطوس وبانياس، امتداداً حتى القرداحة وحتى مشارف حمص وحماة.
إنَّ المفترض أن الرئيس إردوغان يدرك هذا كله، وأنه يدرك أيضاً أنه سيكون في مصلحة إيران بعد وصولها إلى شواطئ المتوسط الشمالية، أنْ تدعم حزب العمال الكردستاني – التركي، الذي هو بالأساس صنيعة المخابرات السورية والسوفياتية، ليقيم دولته المنشودة في قسم كبير من الأراضي التركية، وعندها فإنَّ تركيا لن تعود تركيا السابقة، وإن حصول الأكراد على ما بقوا يسعون إليه، سيشجع آخرين على الاقتداء بهم. إنه كان على الرئيس التركي أن يدرك وأن يتصرف على هذا الأساس، أن ما بين الإيرانيين (في العهد الصفوي) والأتراك (في العهد العثماني) حسابات وثارات قديمة، من الواضح أن دولة الملالي تريد تسديدها، وأن ما يشجعها الآن على هذا أن العراق في هذا الوضع الذي هو فيه الآن، وأن النظام في سوريا هو هذا النظام المذهبي، وأن العرب الذين من الممكن أن يتصدوا لهذه التطلعات الإيرانية، تم إشغالهم بكثير من القضايا الجهوية والداخلية.
والمفترض أن إردوغان، الذي انتقل من الدائرة «العلمانية» إلى دائرة «الإخوان المسلمين»، من المفترض أنه يعرف أن الإيرانيين أهل «تقية»، وأنهم يقولون شيئاً ويفعلون ما هو ضده، وأن تطلعاتهم التمددية تجعلهم يستهدفون تركيا، ويحولونها إلى رقم ثانوي، وهذا يعني أنهم سيصادرون لواء الإسكندرون لحساب الدولة المذهبية التي يسعون لإقامتها، والتي أطلق عليها بشار الأسد اسم «سوريا المفيدة».