د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

سبعون عاماً من السيارات

في الأسبوع الماضي بلغت سن السبعين. ورغم أن ذلك يسجل حقيقة زمنية لتتابع الأيام والسنين، وحقيقة بيولوجية أخرى توحي بما بقي في عمر الإنسان من عافية، فإن فيها أمراً آخر ربما لا يقل أهمية. ولما كنت غير مستعد لكتابة مذكراتي ربما لأنه لا يوجد في الحياة ما يستحق الرواية والتنويه، فإن المؤكد أن الدنيا لم تكن ساكنة خلال سبعة عقود؛ فقد كان فيها دوماً ما يثير الدهشة وأحياناً الذهول. بحكم التخصص العلمي فإن النظرة على تطورات النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فيه بالتأكيد ما يستحق النظر، بل إن ذلك هو ما أفعله من وقت لآخر في مقالاتي لهذه الصحيفة الغراء. وربما نظرة أخرى على النظام العربي أو الإقليمي الشرق أوسطي في مجموعه يبدو هاماً، وهو الآن في مفترق الطرق. السؤال في كل الأحوال هو كيف وصلنا إلى «الآن»، أو تلك المرحلة من الحاضر الذي عبرته ربما بوعي أو غير وعي خلال سبعة عقود، ولا بد أنه كانت له انعكاسات على الحياة الشخصية وأيضاً العامة. ولكن العالم ليس فقط تاريخ السياسة وصراعات الدول وحتى الحضارات، والتاريخ لم يكن فقط سجلاً للبشر، فقد كان على ظهر الكوكب مخلوقات أخرى اندثر كثير منها، وما بقي بات موضع حديث عن «التنوع البيولوجي». ولكن كان هناك ما هو أكثر، فرغم أن سبعين عاماً لا تعد أكثر من «ومضة عين» (التعبير مستعار من قول شهير لسياسي بريطاني لا أذكر اسمه قال إن مائة وخمسين عاماً من الإمبراطورية البريطانية لا تزيد في التاريخ عن ومضة عين ـ فقط لزم التنويه) فإن التاريخ كان فيه كثير من تفاعل البشر مع ما صنعه الإنسان للتفاعل مع الطبيعة، سواء كان بحراً أو جواً أو براً أو حتى في داخل الأرض أو الفضاء الخارجي. كل ذلك تطور خلال سبعين عاماً، وغير من حياة الإنسان، ورغم أن كلها تستحق التسجيل، فإن السيارات دوماً كانت أمراً لافتاً لطفل جاء مولده في عام 1948.
عمر الإنسان هو تسجيل لحركة التطور البشري، ولا شيء يشهد على ما جرى قدر أداة الانتقال الرئيسية لبني آدم اليوم بعد أن ترك عصر الاعتماد على الدواب كوسيلة للسفر والترحال، قدر السيارة سواء عامة كانت أو خاصة. أمران يدهشان في هذا الصدد: أولهما أن عصر الدواب لم يتم استبداله بالسيارات إلا بعد انتصاف القرن العشرين؛ والحقيقة فإنه لم ينقرض تماماً، فلا زلنا نشاهده في شوارع القاهرة، كما أن الحصان ما زال مستخدماً في شوارع مدينة كبيرة مثل نيويورك من قبل الأمن. وثانيهما أن السيارات لم ترد عليها انقلابات ثورية بعد اختراع آلة الاحتراق الداخلي، والنقل الآلي للسرعات وهو الذي تم في عام 1939. وبالنسبة لي فقد بدا الأمر أكثر بساطة، فقد كانت أول مشاهدة يمكن استعادتها من خزانة «الوعي» هي التي تعلقت بما سمي «المنافِلَّة»، وهذه أشك تماماً في معرفة الأجيال الحالية بها. هذه كانت سيخاً من الحديد يدخل من مقدمة السيارة، ثم يكون فيها انثناء يجعل دورانها ممكناً باليد فيكون سبباً في تحقيق الاتصال الكهربائي فيعمل «الموتور» فتكون الحافلة جاهزة للحركة.
بعد ذلك احتاج الأمر سنوات لكي أجد نفسي بجوار سائق يستخدم مفتاحاً تقليدياً لكي يدخل نقطة «الكونتاك» فتسير العربة بإذن الله. كانت هذه أول المعجزات الكبرى، أو هكذا بدت ساعتها، فلم تكن «المنافِلَّة» بتلك الآلة السهلة، فكانت تحتاج جهداً عضلياً لتحريكها، وجهداً عصبياً أيضاً لأنه كان من النادر إطلاق الشرارة المطلوبة من الدورة الأولى. المفتاح كان نقلة غير عادية، وهو لم يبق على حاله على أي حال، فقد بات مزوداً بطاقات لفتح السيارة وإغلاقها، ومع القرن الواحد والعشرين بات ممكناً له إشعال الشرارة قبل الدخول إلى السيارة، وهي عملية لم تعد تحتاج أكثر من ضغطة «زر» صغير!
كل ما سبق كان تقدماً في «ميكانيكا» السيارات، واكبه تقدم كبير في الأشكال والسرعات والأحجام، ومعها استخدام الطاقة خاصة مع ارتفاع أسعار النفط، وازدحام المدن حيث بدأت السيارات الكهربائية في الظهور، وجرى المزج ما بين الكهرباء والبترول، وأحياناً الغاز الطبيعي. النقلة الكيفية بدأت مع نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي عندما بدأت السيارات تعرف طريقها إلى الإحساس عن طريق «مستشعرات» أو «مجسات» تجعلها تدرك ما حولها، وتحول ذلك إلى أصوات أو أضواء تجعل السائق يدرك الخطر أو ابتعاده. ومن خلال هذه الأحاسيس البسيطة بات ممكناً للسيارة أن تحرك نفسها، فتتولى تلك المهمة الصعبة على البشر وهي أن تضع الناقلة نفسها في المكان المناسب بجوار الرصيف. كان هذا هو ما انتهى إليه الأمر مع القرن الماضي، ولكن القرن الجديد كما قلب كل شيء رأساً على عقب، فإنه أفقد السيارة أعز ما تملك في علاقتها بالإنسان عندما لم تعد هناك ضرورة للسائق من الأصل. كنت في الولايات المتحدة عندما بدأت أولى التجارب على استخدام السيارات من دون سائق، وساعتها بدا أنه من الضروري تغيير الكثير من القوانين، ناهيك عن الأعراف، فلا أحد يعرف من سيكون مسؤولاً إذا ما جرت حادثة وكان هناك قليلاً. كان الذعر تقليدياً حدث في كل مراحل التطور،
ولكن مدينة لوس أنجليس سرعان ما أجلت تطبيق التجربة فأخذتها فوراً ولاية لويزيانا، ولا أدري ماذا جرى لها بعد ذلك. ولكن ما أدريه حقاً أن كثيراً من المدن الأميركية بدأت تستعد لليوم الكبير عندما تكون كل السيارات، النقل منها والشخصي، سوف تسير بلا سائق، تنقل الأطفال إلى المدارس، والبضائع إلى المستهلكين.
ولكن الثورة الحقيقية فيما جرى ربما كانت أعمق من ذلك؛ فالمصنعون للسيارات لم يعودا تلك الشركات التقليدية، أو التي باتت تقليدية، التي تنتج السيارات، فقد دخل إلى السوق شركات مثل «آبل» و«أوبر» وأخرى تعمل في مجالات «الذكاء الاصطناعي» لا تنتج بالضرورة تلك السيارات التي نعرفها مثل «تسلر!» وإنما سيارات هي في الحقيقة «منصات» قابلة للتشكيل وإعادة التشكيل حتى تتناسب مع شكل ونوعية المنتج والمستهلك. تجربة إرسال البضائع المطلوبة إلكترونياً عن طريق «الويب» يمكن أن يتم فوراً عن طريق طائرة «الدرون» التي تحمل الطعام ساخناً لكي يصل إلى المنزل. لم تعد السيارة مجرد آلة الاحتراق الداخلي التي تسير على الأرض، وإنما هي آلة مختلفة تماماً تطير في الفضاء أو تسير على الأرض حسبما يوجهها الإنسان أو حسبما يوجهها إنسان آلي يقوم بكل المهام الموكلة إليه. كل ذلك يحدث «الآن»، وجرى أمام العين خلال سبعين عاماً ماضية، ترى ماذا سوف يحدث في السبعين عاماً المقبلة؟