فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

مصر وروسيا... علاقات تتوطد

بالزيارة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى روسيا يوم الثلاثاء 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2018 بدأت حقبة جديدة من العلاقات المصرية - الروسية وطُويت بذلك وبنسبة ملحوظة الصفحة الأخيرة من حقبتيْن: حقبة العلاقات الناصرية – السوفياتية، ثم حقبة العلاقات الساداتية - السوفياتية، لتبدأ حقبة العلاقات السيسية - البوتينية. في الأُولى الناصرية تأسيس وازدهار وتعامُل خلا من الفوقية. وفي الثانية الساداتية تأزُّم وكثير من العتب انتهى إلى أن الرئيس السادات أصاب الزعامة المثلثة (بريجنيف. كوسيغين. بودغورني) بسهميْن حاديْن كان لهما الأثر البالغ الأهمية على الصعيد المعنوي. بل يجوز القول إن السادات أحدث جراحاً أدبية عميقة في بنيان المهابة السوفياتية؛ ذلك أن العنصر الأساسي للسلطة هو مقدار مهابتها وثقة العامة فيما تمارسه الخاصة من أعمال وتتخذه من خطوات أو قرارات. ولقد مُنيت مهابة الكرملين من أنياب الخليفة (السادات) بأفدح استهانة تصيب قيادة وسلطة ذات حضور في الصف الأول للكبار.
كان السهم الأول هو إنهاء مهمة المستشارين والخبراء السوفيات في الجيش المصري، أتْبعه بالسهم الأكثر حدة وهو إلغاء «معاهدة الصداقة والتعاون» التي كان الرئيس السادات وقَّع على وثائقها في القاهرة مع الزائر المباغت نيكولاي بودغورني.
خلال سنوات حُكْم حسني مبارك حدثت انفراجات وخطوات بهدف وصْل ما انقطع وترميم ما وقع، بدأت بأن مصر كانت في عام 1991 إحدى دول قليلة بادرت ومن دون تريث إلى إقامة العلاقات مع روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي. وبعد هذه الخطوات كثرت الزيارات المتبادَلة. زار الرئيس مبارك موسكو خلال سبتمبر (أيلول) وأبرم
اتفاقيات عدة، ثم عززها بزيارتيْن لاحقتيْن عام 2001 و2006. كما أن كلاً من بوتين ثم ميدفيديف الذي اختاره للترؤس أنجزا مع مبارك خلال زيارات إلى مصر جولات من المحادثات التي شكلت رؤية واضحة للاحتياجات المصرية من روسيا الجديدة، واستطراداً للعلاقة الاستراتيجية التي ثبَّت الرئيس السيسي قبْل أيام أساساتها، حيث نراه يوقَّع مع الرئيس بوتين خلال محادثاتهما في مدينة «سوتشي» المطلة على البحر الأسود اتفاقيات عدة تندرج تحت صيغة «الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي بين مصر وروسيا». ومن جملة ما تشمله الشراكة عدا التعاون العسكري الذي قد يتضمن تزويد مصر بصواريخ متقدمة كتلك التي قدَّمها بوتين إلى سوريا البشَّارية، أن روسيا ستسرِّع وتيرة التعاون لإنجاز مشروع بناء «محطة الضبعة النووية». وهذا أيضاً لا ترتاح له إسرائيل خشية أن يبدأ التعاون بالنووي السلمي ثم ينتهي بالنووي السلاح. وعندما يستأنف السياح الروس مجيئهم إلى مصر كما الحال قبْل الحادثة الإرهابية التي استهدفت طائرة روسية في مطار شرم الشيخ يوم السبت 31 أكتوبر 2015، وأودت حياة 224، فإن العلاقات بين البلديْن ستأخذ المنحى الذي سيكون بمثابة رد على تباطؤ الولايات المتحدة في بناء العلاقة الاستراتيجية مع مصر، وهذا ما أراده الرئيس السيسي وسعى إليه منذ السنة الأُولى لترؤسه.
وهكذا، فكما أن مصر عبد الناصر كانت بوابة الاتحاد السوفياتي إلى المنطقة العربية قبْل أن يقفْل السادات هذه البوابة، فإن مصر السيسي ستصبح في ضوء تفعيل «الشراكة الاستراتيجية» وما تتضمنه من مشروعات «البوابة الرئيسية والشريك الاستراتيجي الأهم لروسيا في المنطقة العربية». ويبدو أن روسيا البوتينية ستكون الرقم الدولي الأهم في المنطقة وربما تتقدم بذلك على الرقم الأميركي. ومَن يدري، فربما في هذه الحال يبدأ التناطح الروسي - الأميركي وقد يتطور إلى اندلاع الحرب العالمية الثالثة على العتبات الأموية وجوارها من أراضي الهلال الخصيب.
تبقى الإشارة إلى أن لقاء القمة بين الرئيسيْن السيسي وبوتين في «سوتشي» كان ثامن اللقاءات بينهما. ففي فبراير (شباط) 2014 التقى السيسي في موسكو وكان وزيراً للدفاع في العهد الإخواني الرئيس بوتين. ويومها قرأ بوتين في المشهد المصري الحافل بالمفاجآت والصراعات، أن السيسي (وزير الدفاع) هو الرجل القوي الذي سيحسم. وكانت قراءته في محلها، وتعامل معه من منطلَق هذه النظرة. ثم ما لبث أن جاء السيسي إلى موسكو يوم 12 فبراير 2014 من العام نفسه، إنما هذه المرة بعدما بات رئيساً لجمهورية مصر العربية. وتركت هذه الزيارة في نفس بوتين أطيب الأثر؛ كونها الأُولى للسيسي الرئيس إلى دولة عظمى. ومن أجْل ذلك نرى الرئيس بوتين يرد له المبادرة تلك فيزور مصر يوم 9 فبراير 2015. ولا تمضي ثلاثة أشهر إلاّ ويكون السيسي واحداً من قادة ورؤساء عدد من دول العالم حضروا احتفالات لإنهاء الحرب العالمية دعاهم بوتين لحضور الاحتفالات الذكرى السبعين، مسجلاً أنها المرة الأُولى التي يدعو فيها رئيس الكرملين رئيساً مصرياً للمشاركة في هذه المناسبة. ثم نرى الرئيس السيسي يعقد مع بوتين يوم الأحد 3 سبتمبر 2017، أي بعد سنة، اجتماعاً مهماً إنما في بكين على هامش قمة دول «البريكس» وكانت الدعوة التي وجْهتْها الصين إلى السيسي للمشاركة في القمة مناسبة لتنقية أجواء تلبدت بعض الشيء في سماء العلاقات المصرية – الروسية وأمكن الرئيسان من منطلق الرغبة في دفْع العلاقة إلى المستوى الاستراتيجي تنقية تلك الأجواء. وهذه التنقية حملت الرئيس بوتين على تلبية دعوة من صديقه (هنا أخذت العلاقة بين الرئيسيْن تسير نحو الثقة الكاملة وتفهُّم كل منهما لظروف الآخر وتطلعاته) لزيارة رسمية إلى مصر يوم الاثنين 11 ديسمبر (كانون الأول) 2017. زيارة استغرقت بضع ساعات، لكن الأهمية في هذه الحالة ليست بطول مدة الزيارة ولا بالحفاوة والمآدب وتبادُل كلمات الشكر على حُسْن الضيافة كما هو المألوف بالنسبة إلى تزاوُر الحكام لبعضهم بعضاً، وإنما لأن هذه الزيارة كانت إيذاناً باستئناف حركة الطيران بين البلديْن بعد العملية الإرهابية قبل بضعة أشهر في مطار شرم الشيخ.
وحيث إن هذه العقدة حُلَّت؛ فإن الرئيسيْن وقَّعا خلال هذه الزيارة الخاطفة وثيقة بدء تنفيذ «محطة الضبعة» لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية.
كل هذه الحيوية بين مصر السيسي وروسيا بوتين، التي تترك انطباعاً بأنها مثل علاقة عبد الناصر مع قادة الكرملين في الزمن السوفياتي، علاقة تتساوى فيها المصالح وتسودها الرغبة في التفهم.
ويبقى القول، إن الرئيس عبد الفتاح السيسي استطاع بالحنكة والتواضع واعتماد ميزان الذهب رتْق تشققات في العلاقة المصرية – الروسية. وها هي ذي تعود قوية..