حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

لبنان: حكومة اللامصلحة وطنية؟

أيام قليلة وتحل الذكرى السنوية الثانية لانتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، واليوم يكون الرئيس الحريري المكلف تأليف الحكومة الأولى بعد الانتخابات النيابية الأخيرة قد أمضى نحو 155 يوماً في المشاورات والمناكفات والشد والجذب للوصول إلى حكومة محاصصة تشبه شكلاً الحكومة السابقة، لكن مع فارق جوهري في المضمون، وهو أن التركيبة الوزارية الجديدة هي الأقرب إلى خيارات «حزب الله». صحيح أن الدستور أناط بالرئيس المكلف عملية التأليف، وصحيح أنه يتشارك مع رئيس الجمهورية في إصدار مراسيم التأليف، لكن في حقيقة الأمر أن مسائل كبرى، مثل «حل العقد» الناجمة عن انفجار شهية المتحاصصين الذين طالبوا بوزارات «دسمة» أو «وازنة» أو «خدمات»، تولى فيها «الحزب»، بوصفه الجهة المقررة التي تهيمن على الأكثرية النيابية، عمليات «الإقناع» كتوزيع أغلب الحقائب الوزارية والتأشير إلى أسماء محددة كونها أقرب إلى خياراته وموضع ثقته لتحل في مركز القرار الرسمي عشية ما يلوح في الأفق من أوقات صعبة آتية!
طبعاً المشهد لا يدعو للابتهاج ولا يطمئن، مع أنه من الثابت أن الحكومة الجديدة «لن تشيل الزير من البير» على ما يقول المثل العامي اللبناني. لكن ولبنان يعيش اليوم بالذات ذكرى مرور 29 سنة على «اتفاق الطائف» و«وثيقة الوفاق الوطني» التي أنهت الحرب الأهلية، وكان للرعاية العربية دورها في المساعدة، وكان للرئيس رفيق الحريري دوره أيضاً في كل ما تحقق، وأدى إلى صياغة دقيقة للدستور الذي كلف اللبنانيين نحو 150 ألف ضحية، ورسم الأطر لممارسة الحكم ومسؤوليات السلطات... كان ينبغي التبصر أكثر، وإن احترام التعاون بين السلطات كما ينص الدستور لا يعني ما شهده البلد من تهاون وقبول بمداخلات وتغاضٍ عن وقائع استوقفت الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة الذي نبّه إلى أبعاد ما يردده بعض السياسيين «المنتمين للتيار الوطني الحر، تيار رئيس الجمهورية، الذين جاهروا بالقول بتعديل الدستور اللبناني عبر الممارسة»؛ وهو الأمر الذي شهده الناس جهاراً نهاراً، بحيث إن الرئيس يتحدث عن معايير التأليف وعن التزم بالدستور، لكن كل ذلك ما كان ليتم لولا الضغط الممارس من دويلة «حزب الله» على الدولة.
على سبيل المثال لا الحصر وبعد تثبيت الحقائب السيادية على ما كانت عليه وتركيز حقيبة الطاقة الدسمة بيد تيار رئيس الجمهورية، يقابلها كنز الاتصالات من حصة فريق رئيس الحكومة، دار الصراع على 3 حقائب تُعدّ الأبرز والأكثر تأثيراً وهي: الصحة والعدل والأشغال والنقل. فلمن كانت كلمة الفصل النهائية؟
من البداية أوحى «حزب الله» أنه يريد حقيبة الصحة، متجاهلاً المحاذير والمخاوف التي تحدّث عنها علانية الرئيس الحريري. هذه الوزارة تتلقى مساعدات كبيرة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وستكون المساعدات عرضة للضياع، والنتيجة خسارة كبيرة إذا ما أسندت لـ«حزب الله». ورغم التحذير العلني من السفارة الأميركية في بيروت بقطع المساعدات، وأن الحزب سيتعرض لعقوبات دولية بعد القانون الأميركي بتجريمه، وبدء دولٍ أوروبية النقاش لإنهاء مرحلة الفصل بين وجود جناحين للحزب؛ سياسي وعسكري، فإن الرئيس المكلف سلّم بالأمر! ويتداول عامة الناس معطيات من نوع حاجة «حزب الله» لتوفير رعاية صحية لعدة ألوف من جرحاه، والأهم ما يمكن أن توفره هذه الوزارة بالذات من عوائد لهذه الجهة ومن يقف خلفها، فالدعاية في الإعلام تقول إن منتجات الدواء الإيرانية توفر أرقاماً كبيرة، وأن هناك مصلحة لبنانية في اعتمادها، ولكن لا يطرح أحد السؤال حول نوعيتها وسمعة الاستشفاء، ولم تناقش أي جهة مسؤولة أنه في زمن العقوبات الأميركية على النظام الإيراني والميليشيات التابعة له، كيف سيسدد لبنان فاتورة بالدولار لطهران، وما هذه الخفة في توظيف البلد للتخفيف من وطأة العقوبات الأميركية والزمن هو زمن مسعى واشنطن لحرمان إيران مكاسب البقاء داخل النظام المالي العالمي ومنعها من استخدام العملة الأميركية؟!
طبعاً عشية رزمة العقوبات الأميركية، وقبل أشهر قليلة من نطق المحكمة الدولية بحكمها النهائي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان «حزب الله» حاسماً بأن على الآخرين أن يوفروا له «الاطمئنان» الضروري لجهة وزارة العدل ليتمكن عبرها من مواجهة العقوبات الأميركية من جهة؛ ومواجهة حكم المحكمة الدولية من جهة ثانية... وبالتالي ليس أنسب من استمرار الوزير جريصاتي، فهو مقرب من الرئيس عون ومن مستشاريه، وفي الوقت نفسه هو المحامي الأبرز عن المتهمين من «حزب الله» بجريمة اغتيال الرئيس الحريري، وهو أيضاً عضو في الفريق الذي ساهم بكتابة آخر دستور لسوريا في عام 2012.
يمتاز الوزير السابق سليمان فرنجية بأنه يقول الأمور دون مواربة، وهو من موقعه مرشحاً للرئاسة ويحوز تأييد «حزب الله» ودمشق، قال في حديث تلفزيوني إن وزارة الأشغال والنقل من حصة فريقه، وإنه من دونها لا يشارك في الحكومة. وعندما سئل عن الضمانة؛ قال علاقته بـ«الحزب»، وهو مطمئن للنتيجة. طبعاً هذه الحقيبة مهمة؛ فبين أيديها جزء من الإشراف على الثغور البرية والبحرية والجوية، وهنا القصة كبيرة تبدأ بضرورة الحيلولة دون تشغيل مطار ثان رغم الحاجة إليه، وهذا موضوع يرفضه «حزب الله»، إلى القبول بتغطية قضية كبيرة مثل تعطل الأنظمة الإلكترونية لنقل الحقائب والأمتعة، وما رافقها من حديث عن وصول شحنات جوية معينة ربما كانت أسلحة، وبينهما كل ما يتردد عن وجود بوابات خاصة بهذا الفريق في المطار والمرفأ للجباية والحركة (...).
عندما تُرشح الأغلبية النيابية شخصية لتأليف الوزارة، فمن صلب صلاحيات هذا المرشح اختيار الأعضاء، ودوره ليس الوسيط بين الأطراف، بل إن التزام الدستور واجبه، واحترام الصلاحيات المنصوص عليها دستورياً يجب أن يكون الأمر البديهي المسلّم به، وهذه هي وحدها الطريق المفضية لقيام حكومة لكل البلد وليس حكومة محاصصة الفائزين في الانتخابات الذين نالوا أقلية أصوات المقترعين. قبل نحو من 60 سنة كان الرئيس الراحل رشيد كرامي في مرحلة الاستشارات قبل التأليف يستشير الكتل عن توجهاتها ورغباتها، ويومها قدم له مؤسس «الكتائب» بيار الجميل اسمين للتوزير، وعندما أعلنت الحكومة تمثلت «الكتائب» باسم ثالث، فاستاء الجميل وسأل عن السبب، فقال كرامي: «إنها المصلحة العامة؛ اقتضت ذلك»، وانتهى الأمر.
في عام 2016 كان لبنان يحتل المرتبة الـ136 على مؤشرات مدركات الفساد من أصل 180 دولة، وفي عام 2017 أصبح في المرتبة الـ143، والمضي بعيداً في نهج المحاصصة المستند إلى السلاح خارج الدولة سيعني مزيداً من غياب المساءلة وانحلال المؤسسات العامة، وكثيراً من الرشوة والفساد والتلوث والانهيار العام على كل الصعد، واستحالة أن يتطور البلد سياسياً واقتصادياً؛ فكيف بهم استعادة السيادة والاستقلال؟!
عشية إعلان حكومة الغفلة تغيب الدعابة وتتقدم الكآبة، وتتقدم المؤشرات على مدى تحلل الدولة وفقدان السيادة، ويتراجع موقع لبنان ودوره.