فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

البقاء ـ«الشراكات الاستراتيجية»

تأتي زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى روسيا التي قام بها يوم الثلاثاء 16 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي والتي طوت صفحة من الارتباك في العلاقات، ووضعت خارطة طريق لعلاقة قائمة على «الشراكة الاستراتيجية»، متزامنة مع الذكرى الخامسة والأربعين لحرب 6 أكتوبر 1973 التي خاضها الجيش المصري الذي أُعيد بناؤه خير إعداد، واقترن الإعداد بحماسة وطنية هدفها الثأر الحاسم من هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967. وكان ذلك ممكناً لولا ثغرة «الدفرسوار» التي افتعل صيغتها ثعلب الدبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر بغرض اعتماد معادلة ميزانية تقوم على: كفة لا يأخذ النصر المصري مداه، وكفة لا تخرج إسرائيل بهزيمة كاملة.
وهذا التزامن للزيارة يرضي بعض الشيء مشاعر المؤسسة العسكرية الروسية التي هي امتداد للزمن العسكري السوفياتي، وذلك على أساس أنه بالسلاح السوفياتي حقق الجيش المصري يوم 6 أكتوبر 1973 النصر الذي افتتحه قائد السلاح الجوي زمنذاك اللواء حسني مبارك من خلال مائتي طائرة قامت بهجوم زلزل الإسرائيليين حكومة وجيشاً وشعباً ثم اقتحمت «النخوة» الأميركية الميدان السياسي، وكان الذي أشرنا إليه. وتشاء الظروف الاستثنائية القضائية أن الإشادات في احتفالية الذكرى الخامسة والأربعين للنصر المبين لم تشمل ذِكْر الرئيس السابق حسني مبارك الذي كافأه الرئيس (الراحل) السادات لمجرد أن بلغه نجاح الضربة الجوية بتعيينه نائباً لرئيس الجمهورية، واقتصرت الطقوس الاحتفالية على وضْع أكاليل الورد على قبري الرئيسين أنور السادات وجمال عبد الناصر.
كان لا بد من مناقشة في العمق كي تأخذ العلاقة المصرية - الروسية الطريق نحو «الشراكة الاستراتيجية» التي وضع الرئيسان السيسي وبوتين أساساتها وشملت - على نحو العبارة المصرية في الزمن الناصري في شأن العلاقة مع موسكو - «من الإبرة للصاروخ». ومن الجائز الافتراض أن مناقشات صيغة الشراكة أزالت رواسب العتب الروسي الموروث والمتعلق بخطوتيْن اتخذهما الرئيس السادات وشكَّلتا في نظر المؤسسة العسكرية السوفياتية ما اعتبر إهانة معنوية بالغة القساوة وهما «إنهاء مهمة الخبراء والمستشارين السوفيات» يوم 17 يوليو (تموز) 1972 من جانب واحد خلا من التشاور، ثم إلغاء «معاهدة الصداقة والتعاون» التي أبرمها عضو مجلس السوفيات الأعلى نيكولاي بودغورني يوم 27 مايو (أيار) 1971 ومِن قبل أن يستكمل خليفة عبد الناصر ترتيب أوراق حُكْمه وفيما تداعيات الاحتلال الإسرائيلي ما زالت جاثمة على الصدر المصري.
وجاءت زيارة الرئيس السيسي لتزيل بقايا هذا الاحتقان، ولتؤكد أن «شراكة استراتيجية» بين مصر وروسيا تغني عن المعاهدات بالنصوص التي مهما كانت مُحْكمة الصياغة لا تصمد، بدليل هذا الذي حدث للمعاهدة التي حملت توقيع كل من السادات وبودغورني.
وإلى ذلك، إن الشراكة الاستراتيجية تؤكد استقلالية الطرف الأضعف وهو هنا مصر. ولو أن الكرملين اعتمد مع السادات مبدأ «الشراكة الاستراتيجية» بدل المعاهدة التي تترك انطباعاً بالاستضعاف، لكان الاختراق الأميركي للموقف المصري عسيراً إلى حد لا تنفع في تذليل عقباته أحابيل الدبلوماسية الكيسنجرية ودبلوماسية أسلافه، وبالذات جون فوستر دالاس الذي لو كان على درجة من الحصافة لاستطاع حجْب أحلام الكرملين في أن يكون له موطئ قدم ثابت في العالم العربي، لأن حضوره الشكلي من خلال الأحزاب الشيوعية لا يُسمن ولا يُغْني من تطلُّعه نحو الحضور القوي والمؤثر سياسياً وعسكرياً من خلال أنظمة. وهنا يجوز القول إن الدبلوماسية الأميركية تلك... دبلوماسية دالاس، لم تقرأ الشخصية الثورية المصرية الجديدة المتمثلة في مجموعة ضباط «ثورة 23 يوليو 1952» وبالذات شخصية الوجه ذي المؤشرات القيادية جمال عبد الناصر، ذلك أن هذا الضابط الذي بات خلال سنتيْن القائد الفعلي لثورة 23 يوليو أبعد ما يكون عن الفكر الماركسي، بل ليس مبالغة القول إنه كان، شأنه شأن أكثرية ضباط الثورة، يتطلع إلى علاقة وثيقة بالولايات المتحدة إعجاباً منه بتجربة الرئيس إيزنهاور الذي هو مثله جاء إلى الحُكم على بساط سنوات شقاء التدريب والقتال في المعارك الظالمة. ولو أن دالاس قرأ جيداً ما يرمي إليه عبد الناصر، أي أنه بالعلاقة المتينة مع الولايات المتحدة يخفف من ضغوط ما تبقَّى من وطأة الاحتلال البريطاني لمصر، بعدما كان الزعيم الوفدي المرموق مصطفى النحاس وضع بإلغاء المعاهدة مع الحكومة البريطانية حجر الأساس لتصفية تلك الوطأة... إن دالاس لو قرأ جيداً مبتغى عبد الناصر وتجاوب مع مطالبه التنموية الملحة والتي أهمها المساهمة في تمويل مشروع إنشاء سد أسوان لما كان للقدم السوفياتية أن تطأ الأرض المصرية، ثم تتطور الأمور أكثر فأكثر إلى درجة أن مصر باتت العمق العربي - الأفريقي للاتحاد السوفياتي. أما كيف كانت الوطأة الأولى للقدم فمن خلال إبرام عبد الناصر اتفاقاً مع الاتحاد السوفياتي لتزويده بالسلاح، وجاءت التلبية على وجه السرعة وعُرِفت بـ«صفقة السلاح التشيكي» التي أُبرمت يوم 27 سبتمبر (أيلول) 1955 وبقيمة ربع مليار دولار (أي ما يعادل في هذا الزمن رقماً مليارياً سخياً). أما لماذا ليس من موسكو مباشرة يأتي السلاح، فخشية السوفيات من مسارات التوجه الناصري، وبحيث إذا كان عبد الناصر سيستعمل الصفقة كمجرد وسيلة ضغط عابرة، وفقط رداً على عدم تمويل عملية بناء السد، فإن الكرملين يتصرف إزاء ذلك بما يجعله يَطمِئن فإما يواصل التعاون العسكري مع مصر وإما يقطع. وهو بعدما اختبر نيات عبد الناصر قرر ومن دون الحاجة إلى معاهدة اعتبار مصر ورقته ذات العائد المجزي في لعبة المقايضات الدولية. ولقد جنى الكثير من هذه الورقة التي ما لبث أن تصرَّف السادات مع «الترويكا»: بريجنيف. كوسيغين. بوردغوني، بطريقة ما يختصره القول الشعبي «بُلَّها واشرب ماءها» حيث إنه وفي غياب عدم الالتزام السوفياتي من جهة إلى جانب عدم طمأنينة الكرملين إلى ما يضمره السادات إزاء العلاقة معهم وانزعاجه أشد الانزعاج من إصرارهم على إبرام المعاهدة معه بينما هم لم يبرموها مع عبد الناصر، ألغاها على طريقة إلغاء مصطفى النحاس المعاهدة مع الإنجليز، مع ملاحظة أنه بقدْر من أن الإلغاء النحَّاسي قوبل بترحيب شعبي ملحوظ، فإن الحذْر الثوري الناصري من النحاس بقي على نحو بدايته نتيجة تعبير فوقي الصيغة قاله النحاس الذي كان في إجازة في أوروبا، واستدعاه ضباط ثورة 23 يوليو للتشاور معه إعجاباً منهم كما سائر الشعب المصري بإقدامه على إلغاء المعاهدة التي سبق أن وقَّعها يوم 26 أغسطس (آب) 1936 مع وزير الخارجية البريطانية أنطوني إيدن. بل إن عبد الناصر كان يتطلع إلى أن يكون مصطفى النحاس أول مدني يترأس الحكومة في العهد الجمهوري الثوري، وبذلك تكسب الثورة التفافاً من جانب الجمهور الوفدي العريض في معركة إحدى أبرز نقاط برنامجها الوطني (تأميم قناة السويس) فضلاً عن مسحة تقدمية في رؤيته. لكن التعبير الفوقي من جانب النحاس قاله مخاطباً اللواء محمد نجيب بحضور بقية أعضاء مجلس قيادة الثورة «بقى انت قائد ستين ألف (أي عدد أفراد الجيش المصري) وأنا قائد تمنتاشر مليون (أي عدد سكان مصر)» أزعج الضباط الثوريين. ثم زاد الحذر منه لأنه اقترح خلال اللقاء عودة عبد الناصر ورفاقه إلى ثكناتهم واعتماد نصوص الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية. ومن الطبيعي أن ينتهي اللقاء إلى أن الفعل الثوري تقدَّم على الحنكة النحَّاسية.
وبالعودة إلى ما بدأناه نرى أن حقبة «الشراكة الاستراتيجية» بين مصر السيسي وروسيا البوتينية غير آيلة للتهاوي كما الحال مع المعاهدة المصرية - السوفياتية وقبْلها المعاهدة المصرية - البريطانية، وكما المتوقع حصوله للمعاهدة السورية - السوفياتية (8 أكتوبر 1980) والمعاهدة العراقية - السوفياتية (9 أبريل (نيسان) 1972) وحتى للمعاهدة اللبنانية - السورية (22 مايو 1992). ففي ظل «الشراكة الاستراتيجية» يتبادل أهل القمة التزاور والتشاور من دون أي فوقية بحيث إن السوفياتي كما يُزار يزور. حدث ذلك مع مصر عبد الناصر التي زارها خروشوف يوم 9 مايو 1964 لتدشين المرحلة الأولى من السد العالي، وبعد ذلك زارها كوسيغين إنما معزياً بعبد الناصر ثم بودغورني متعاهداً مع السادات. أما بريجنيف فدائماً يؤتى إليه كما كان حال الرئيس حافظ الأسد مع رئيس لبنان، وكما حال الكرملين السوفياتي مع الرئيس صدَّام حسين. وعندما سيرُد بوتين الزيارة للرئيس السيسي في مصر ويصبح التزاور زيارة مقابل زيارة ستتأكد أهمية العلاقة على قاعدة الشراكة.
وفي هذه الحالة ربما لا تعود السياسة الأميركية تعتبر نفسها أنها لا بدائل عنها. ذلك أن غيرها متأهب وجهَّز نفسه ومن دون الانشغال بالتغريد الذي فيه كثير من البلبلة في أصول التعامل فيما بلابل بوتين وحتى إشعار آخر تغرد شراكات استراتيجية.