محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

هكذا يكتب «الكفيف» مقالي!

كتبت هذا المقال باستخدام تقنية التلقين الصوتي عبر هاتفي لأول مرة.. وذلك لكي أعيش تجربة تكيف كفيف البصر مع تحديات الكتابة وغيرها. قد يعاني الزملاء في التدقيق اللغوي مع نص المقال، لكنني آثرت أن أجرب كيف يعاني أحبتنا الكفيفون.
لفتني لهذه التجربة موقف لأحد المغردين في «تويتر»، يزعم أنه كفيف البصر، إذ قال له أحدهم: «يا كذاب، تريد أن تصبح مشهوراً على حسابنا»؟ ويبدو أن الكويتي عبد الله السنافي الذي تلقى هذه التهمة قد نجح بالفعل في لفت أنظار الناس، لكونه يقرأ الأخبار والتعليقات، ويناكف المغردين، فهو يتمتع بحس دعابة ملحوظ مع الناس، كغيره من الكفيفين. قابلته فرأيته بالفعل كيف يغرد ويقرأ بريده الإلكتروني، ويفتح حساباته البنكية بكل سهولة، ويحجز مواعيده مع الناس عبر التراسل النصي.
سألته: ما هدفك من كل هذا؟ فقال: بصراحة، أريد أن يعرف الناس أننا مثلكم نمارس حياتنا بصورة طبيعية. وتذكر بمرارة قصة تحطم طموحه على صخرة الواقع، حينما قيل له إنه ليس هناك مدرسة ثانوية للمكفوفين في الكويت. وحاول إقناع المسؤولين بأنه يستطيع أن يدرس في المدارس العادية، فتفوق على نظرائه من الأصحاء، وتخرج بتخصص علوم سياسية، لكنه لا يحب أن يخوض في السياسة لأنه يعتبر أن لغة الحوار منحدرة في «تويتر».
أمام هذا العزم تألمت كثيراً، فكيف لا نهتم بالكفيفين الذين يشكلون نحو 40 مليون شخص، بحسب منظمة الصحة العالمية. وهذا الإصرار ذكرني بجامعة «كالوديت» في واشنطن العاصمة، حيث لبيت دعوة من وفد خليجي للاطلاع على تجربة أول جامعة للصم والبكم في العالم. كانت مشاعري حينها مختلطة، فكيف سيكون حال جامعة تدار من قبل الصم والبكم؟ دخلت وإذ بالهدوء يلف المكان؛ خشيت من أنه ربما كان يوم عطلة، لكنني أسمع صرير الأبواب تفتح ووقع أقدام المارة. فتحت باب القاعة وولجت، وإذ بالوفد يصغي إلى رجل يحدثهم بلغة الإشارة، وبابتسامة عريضة وحماسة ملحوظة. جلست مندهشاً أتابع المشهد. ولما انتهى، انطلق المترجم يشرح لنا قصة تحدي تأسيس الجامعة عام 1864، التي رواها رئيسها الأصم، وكيف أنه تولى منصبه بعد مظاهرة احتجاجية واسعة قام بها الصم بالجامعة عام 1988، بدعم من أعضاء الكونغرس الأميركي وناشطين، فتصدرت وسائل الإعلام الأميركية، وكان أحد مطالبهم أن يتولى إدارة الجامعة شخص يشعر بمعاناتهم، كالصم وغيرهم. والجميل أن هذا التحرك الشعبي الإنساني قد نجح في إصدار قوانين وتشريعات تتجاوز ما صدر في قرنين من الزمان. وبالفعل، تولى أصم شؤون الجامعة، ومعه نحو ألف موظف من الصم وضعاف السمع، يشكلون 40 في المائة من الموظفين، كلهم يتخاطبون بلغة الإشارة في الجامعة.
ومنذ ذلك الحين وأنا أتابع كل أصم وأبكم باهتمام واعتزاز متزايدين لسبب بسيط، وهو أن الله تعالي إذا ابتلى أحداً بحرمانه من إحدى نعمه أو حواسه، فإنه يعوضه بحماسة وجلد وتحدٍ وتفانٍ يثير الإعجاب. وما يؤلم أنه لا نكاد نجد جامعات وأفلاماً وثائقية عربية وبرامج تسجيلية دورية ترصد تحديات هؤلاء العظام.
هؤلاء الصم والبكم أرادوا أن يقولوا للعالم أجمع «نحن هنا، ولا نقل عنكم عطاءً وتفانياً وحباً لهذا البلد الذي نعيش جميعنا على ترابه»، ولذا فإن أقل ما يمكن أن يقدم لهم هو مزيد من الدعم والتشجيع، علنا نوقد بهؤلاء همم بعض الأصحاء الذين يلعنون الظلام ولا يشعلون شمعة.