د. هاني عانوتي
TT

لبنان... غياب الحكومة غياب الدولة

استوقفني في أحد مقاهي برشلونة، حديثي مع أحد الأصدقاء الإسبان عن تغيير الحكومة السريع هنا، والذي أطاح برئيس الحزب الشعبي ماريانو راخوي وأوصل الرئيس الاشتراكي بادرو سانشيز إلى رئاسة الحكومة. فتشكيل الحكومة هنا لم يستغرق أكثر من أربعة أيام وجميع الوزراء من أصحاب الخبرات والكفاءة، لذلك اختيروا لتولّي مناصب وزارية حسب اختصاصاتهم. المدهش والمتطور في هذه الحكومة أن النساء حصلن على 11 وزارة من أصل 17. فالنساء هنا لسن بحاجة إلى «كوتا نسائية» ولا لمن يتحنن ويتفضل عليهن لإعطائهن المناصب. علما بأن إسبانيا ليست النرويج ولا السويد حيث الحوكمة وحكم القانون والعدالة الاجتماعية والتباين الجندري يكاد لا يُذكر في البلدان الاسكندنافية.
أسرعت من بعدها لإخبار صديقي عن التجربة اللبنانية في تشكيل الحكومات واعتياد الشعب والمؤسسات على التأليف الطويل والفراغات الرئاسية والحكومية والبرلمانية. أخبرته عن التشكيل والتأليف والتكليف والتأخير والاستشارات وحل العقد وتدوير الزوايا وإلى ما لا نهاية من تعابير ومصطلحات توحي للسامع والقارئ بأننا بصدد إنشاء ليس فقط حكومة، إنما مركز عالمي أممي لأبحاث الكون والمجرة. أجابني باستهجان: إنها مجرد حكومة يا صديقي، والتي لا يستغرق تأليفها في الديمقراطيات والديكتاتوريات أكثر من أسبوع.
لم أخبره لكي لا أزيد السوء سوءاً، أنه من المعيب والمؤسف في مكان ما تقسيم الوزارات بين سيادي وخدماتي ودولة. فالأولى من الوزارات المهمة والثانية مقبولة ووزارة دولة هي «أرخصهم». ولكن عند التدقيق في جوهر معنى الدولة والحكومة، نرى أنه على العكس، فالوزارات كلها مهمة ووزارة الدولة هي الأساس لأنها تحمل في رمزيتها اسم الدولة. من المعيب والمخجل تعطيل البلد المعطل أصلاً والاستخفاف بانعدام القانون وإفلاس الدولة وعدم الاكتراث للتحديات القاتلة للبنان وشعبه من أجل تقسيم الدولة، ولا أقول الوزارة، حصصاً بين الأفرقاء. من المشين ألا نرى من كل هذه الطبقة التي تتفاوض على الدولة وتأكل من عظامها ولا «رجل دولة» قادرا أن يضع حدا لهذه المهزلة. من المحزن أن أرى الشعب مخدرا إلى حد عدم الاكتراث بمستقبله القاتم ومشاكله العقيمة. من المؤلم هذا الصمت الدولي والإقليمي لمهزلة تأليف الحكومة كون، حسبما يدّعون، لبنان واستقراره جزءا أساسيا من المنظومة الدولية.
فالوزارة والدولة مسؤولية وليست شهية. إنها عبء وليست بنكا. إنها تأمين خدمات الناس وليس السياسيين. فمن غير المنطقي أن يحكم الكُل. فلعنة لبنان ليست بتعدديته، إنما بنظامه المبني على مشاركة الكُل في الحكم، مما أضعف الدولة وجعل كل حزب أو مجموعة أو حتى فرد، دولة بحد ذاته. من البدع ودلائل الضعف أن تكون أصول اللعبة السياسية إما مشاركة الكل وإما الفوضى. فتغيير النظام القائم أصبح حاجة. وتطوير العمل السياسي من طائفي حزبي إلى حزبي علماني ليبرالي هو المخرج الوحيد ولو بعد حين.
أخبرت صديقي، أن في علم السياسة البسيط، الحكومة هي ذاك الكيان المسؤول عن تطوير وتنمية البلد وإدارة المؤسسات وتطبيق القوانين وتقديم الخدمات. أما في علم السياسة اللبناني، فالدولة هي ذاك الكيان المسؤول عن إغناء القليل وتفقير الكثير وتحقيرهم. باختصار الحكومة هي الدولة وغيابها غياب الدولة. فغالباً ما يُعرّف في الشارع عن دورية الأمن «بالدولة» وبانقطاع الكهرباء بـ«انقطاع الدولة» وكذلك المياه والكثير من الخدمات. فالدولة بالمطلق لها رمزيتها ولكن للأسف في شارعنا الرمزية التشاؤمية. الدولة هنا فقدت هيبتها وفقدت كرامتها وأصبحت هذه البقرة التي تُحلب دون توقف حتى فقدت مناعتها وصحتها وأصبحت على ما هي عليه الْيَوْمَ.
من هنا لا يختلف اثنان أن ثقافة الدولة في لبنان هي ثقافة فساد وجشع. إنها ثقافة مبنية على ضعف هذا النظام من الأساس. فليس للدولة هنا رونق وهيبة وبريق وحتى حاجة. فالمسؤول وموظف الدولة يحتاج إليها للعيش أو لزيادة ثروته. أما أنا والكثير الكثير من الناس فلسنا بحاجة إلى هذه الدولة في شيء، هي من بحاجة إلينا. فالدولة هنا لا منفعة لها، لا تقدم شيئا، بل على العكس تأخذ منا دون رحمة. أنا كشخص ولا أقول «مواطن» (لأن مبدأ المواطن غير موجود أساساً) يمكنني العيش في لبنان دون الاعتماد على الدولة. فغياب الدولة أنعش فينا مبدأ الاعتماد على الذات حتى أصبح كل شخص منا «دولة» وقادرا على تأمين احتياجاته. للصراحة ولا يجوز النكران هنا، أنا والكثير غيري بحاجة إلى هذه الدولة فقط من أجل الحصول على جواز سفر أو استخدام مطارها للهروب إلى العالم الأرحب.