حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

كأنها بداية نهاية اللعبة في «الهلال الشيعي»

في كل البلدان الطبيعية تُقدم الانتخابات مخرجاً للإنقاذ وانتقال البلد المعني من حال إلى حال، إلاّ في العراق ولبنان هذه الأيام. ما إن انتهت الانتخابات حتى انفتحت الأزمة السياسية الكامنة؛ شلل كامل ولا حكومات قريبة والتداعيات مستمرة مع الاعتراف بالخصوصية، هذا مع العلم أنه يوم تحدد موعد الانتخابات البرلمانية في لبنان والعراق في السادس من مايو (أيار) والثاني عشر منه على التوالي، سادت أجواء مفادها أن طهران ستُحكم الآن قبضتها من خلال الانتخابات، بعدما نجحت في مد سيطرتها من خلال السلاح الموازي والتفلت من القوانين وفرض الجيش الرديف: «الحشد الشعبي» هناك و«حزب الله» هنا.
تتالت انفجارات الغضب في إيران ضد حكم الملالي الذي أغرق الملايين بالفقر المدقع وعرّض الناس للذل، واستمرت المظاهرات بزخم كبير مع الانهيار المريع في سعر العملة وبالتالي انهيار مستوى المعيشة، وشمل الغضب الشعبي العفوي كل الأعراق والقوميات وكل مناطق إيران حتى قم وتكرر إضراب البازار. الشعارات وحّدت الانفجار الشعبي: الموت للديكتاتور، اخجل خامنئي واترك البلاد، اترك سوريا واهتم بشأننا، لا غزة ولا لبنان حياتي فداء إيران، أيها الإصلاحيون والأصوليون انتهت اللعبة.... الغضب الذي استبق العقوبات الأميركية فاض عن الشارع الإيراني وترك صداه في مناطق بعيدة، ولا بد أنه أثار الكثير من الأسئلة الجدية عن مآل الأوضاع، ومآل ما قدمه الخميني ومريدوه وأتباعه وهل هذا هو النظام - النموذج الذي استدعى إقامة نوع من «الكومنترن» الشيعي للدفاع عما قيل إنه المثل العليا والحلم الموعود الذي أتت به ثورة الخميني (....) ولا بد أن الأثر فاض إلى العراق والصدى يتردد بقوة في بعلبك والهرمل وصولاً إلى جبل عامل في لبنان، لكن الأثر في بلاد الرافدين كان أبلغ مع استفاقة ألوف الأسر العراقية وقد سلب المرابي الإيراني منهم مئات ملايين الدولارات هي مدخرات مواطنين عراقيين بسطاء أو سذج، ومعهم حفنة من السماسرة التجار أثرياء الحرب الذين دمرهم الجشع، فكان المستجد (الوضع الإيراني) الذي شكل أحد عوامل التحفيز على بدء كسر الشرنقة التي أتقن حياكتها تجار موت باسم الدين.
تزامنت الانتخابات العراقية مع انحسار الخطر الإرهابي الذي شكله «داعش». والذين دفعوا الأثمان الكبيرة كانوا يعرفون أن «داعش» هذا كان فيه الكثير من التصنيع العراقي - المالكي والأسباب جلية بما وصل إليه الوضع في العراق اليوم، هذا يفسر جانباً أن الأغلبية الساحقة لم تكن جزءاً من العملية الانتخابية، عندما اقتصرت المشاركة على نحو من 27 في المائة من المقترعين، وتم تسجيل مقاطعة احتجاجية فاقت الـ70 في المائة. الأمر لم يستوقف الكتل الطائفية التي انخرطت في بناء تحالفات للحكم ومواصلة مسيرة المستأثرين بخيرات العراق دونما أي التفات لأبعاد هذه المقاطعة، خصوصاً أن هذه الانتخابات أعادت إلى الواجهة البرلمانية الكثير من الوجوه المتهمة بالفساد والتبعية والبعض كان يتفاخر بذلك متبجحاً بقوة يستمدها من خلف الحدود. هذا الوضع كان من الأمور التي أطلقت موجات من الغضب الشعبي... استفاقت الناس على أوضاعها مع بطالة لم يعرف العراق مثيلاً لها وتراجع حاد في مستوى الدخل وانهيار معيشي، وعلى الظلم المحدق بمصالح الناس مع الفساد المنفلت، وعلى تردي كل الخدمات. ويكفي أنه مع تجاوز درجات الحرارة الـ50 درجة في البصرة والجنوب عموماً ازدادت نسبة انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 16 ساعة بعدما أوقفت إيران تزويد الجنوب ببعض الطاقة الكهربائية لخلافات مالية (...)، وتنبه الناس أنهم يشربون المياه المالحة، إذ ارتفعت الملوحة في شط العرب إلى أكثر من 25 في المائة بعدما كان المعدل نحو 5 في المائة فقط. ويدرك الملايين أن تحويل إيران 7 مجارٍ مائية كانت تصب في شط العرب تسبب بجزء من الكارثة، والأمر تم ببساطة دون أي موقف رسمي، والجزء الآخر يكمن في صمت حكام بغداد على خفض تركيا حصة العراق من دجلة والفرات إلى أكثر من النصف فاتسع التصحر في كل العراق.
الهبَّة العراقية حملت رسائل سياسية أبرزها رفض الجور اللاحق بالناس، والمثال الفاقع أنه بموازاة قيام المنطقة الخضراء مدينة نموذجية وسط بغداد مكرسة للطبقة السياسية وأثرياء الحرب وتحاكي أبرز مدن الرفاهية في العالم، اتسعت ظاهرة مدن الصفيح تُزنِّر المدن وتؤوي مئات ألوف الأسر التي يطحنها الجوع، كما وجهت إدانة للمسبب الأساسي وهو الهيمنة الإيرانية وأتباعها الذين استأثروا بالحكم بعد العام 2003. وهم وصلوا إلى السلطة على متن الدبابات ولم يتوانوا عن توظيف كل العراق للالتفاف على العقوبات المفروضة على إيران، وحالت هذه التبعية دون قيام طبقة سياسية تعبر عن مصالح وطنية، تعرف هموم الناس والطرق الأفضل لمعالجتها، وهذه الرسائل أدركها حيدر العبادي الذي بادر إلى سلسلة إجراءات تحت تأثير الضغوط الشعبية ظلت أقل من الحد الذي يرضي المنتفضين؛ ومنها إقالة وزير الكهرباء وإحالة مئات المسؤولين الكبار بشبهات فساد إلى الادعاء العام، وإقرار ميزانية عاجلة لتنمية الجنوب والوسط... وإذا كان العبادي في ذروة الصراع على موقع رئيس الوزراء يريد التأكيد أنه القادر على محاربة الفساد وإدارة الدولة، ففي ذلك مؤشر على أن ما يجري حدث نوعي، بمعزل عن مآل النتائج اللاحقة لهذه الهبة الشعبية.
قبل الانتخابات النيابية برزت مؤشرات بأن هيمنة الثنائي الشيعي قابلة للاهتزاز الجدي وخصوصاً في عرين «حزب الله» بعلبك - الهرمل. تنبه «حزب الله» للتطور المقلق فكانت الخطب المتلاحقة لشد العصب والاستنفار وتخوين كل الآخرين، فهم «شيعة السفارات» وهم عملاء العدو وهم... وهم... وما لم ترتفع نسبة الاقتراع قال السيد نصر الله فإنه سيتحدى المخاطر الأمنية ويزور كل البلدات ويلتقي الناس كي يدركوا أهمية هذه الانتخابات. لكن بفضل القانون المشغول على مقاس مصالح «حزب الله» وما يتيحه من تجاوزات تؤمّن المطلوب، وجاء العون النوعي عبر قرار همايوني بفتح صناديق الاقتراع 4 ساعات إضافية حتى الحادية عشرة ليلاً لاستقدام ألوف المجنسين من سوريا، ثم كان الفرز المزاجي وإخفاء محاضر الفرز الأولي و«ضياع» صناديق إلى شائبات ومثالب لو أُخذ بها لتم إبطال العملية الانتخابية برمتها. وفي خطاب النصر كان السيد نصر الله واضحاً باعترافه أن الخرق لو حدث في المقاعد الشيعية كان سيكون بمثابة الكارثة.
ما جرى في هذه الدائرة الانتخابية معبر لأن التململ اتسع بعد الانتخابات حيث مع اقتراع الأموات تجاوزت المقاطعة الوطنية 51 في المائة، ليتم على الفور رمي اقتراح اعتزام لبنان تشريع زراعة «القنب الهندي» (الحشيشة)، ومعها وعود الثروة ورشوة جديدة بإسقاط نحو 50 ألف مذكرة توقيف أو ملاحقة بتهم متعلقة بزراعة وترويج واتجار بالحشيشة. واللافت أنه كما في العراق كذلك في لبنان، لم يتم التوقف مطلقاً أمام قرار أكثرية الناس المقاطعة الذين على طريقتهم وجهوا إدانة لكل الطبقة السياسية، وانشغل البلد في صراع فوقي بين فرقاء المحاصصة الطائفية وارتبط بتشكيل الحكومة، وما إذا كانت كما أرادها قاسم سليماني حكومة «ممانعة ومقاومة» أو حكومة تحمل حداً أدنى من مصالح الناس والبلد، كتعهد بإعادة الاعتبار والدور إلى المؤسسات الأساسية للسلطة، مؤسسات القضاء والرقابة والمحاسبة والتفتيش... بما يفتح الأبواب أمام الكفاءات لتحمل هم إنقاذ الاستقلال واستعادة الجمهورية لأن في ذلك الممر الإلزامي لحماية الاستقرار، وإلاّ البديل عن عدم سماع صوت الناس وأخذ مصالحهم بعين الاعتبار هو اللجوء إلى الشارع.
اللعبة دخلت منعطفاً جديداً ومن ادعى في طهران زوراً رسوخ «الهلال الشيعي» من بغداد إلى بيروت عبر دمشق لتكريس هيمنة ملالي طهران، سيكتشف أن مرحلة جديدة أطلت والاهتزازات جدية، رغم العقبات والصعوبات وتشابك المصالح، وأن الناس بدأوا يدركون أكثر أن القيادات المذهبية وكل زعماء الأحزاب الطائفية رسبوا في حقل تمثيل المصالح السياسية الحقيقية لهذه البلدان، عندما عطلوا الدساتير وأفسدوا القوانين، وأنه آن الأوان لرفض القوى التي حملتها الدبابات إلى الحكم كما في العراق، وجاءت على أجنحة الحرب الأهلية وقانون العفو عن جرائم الحرب كما في لبنان، وهي قوى تمثل الخراب والفساد والتبعية للخارج.