حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

فصل من سيرة الاحتضار اللبناني

يُشبه لبنان مريضاً في المراحل النهائية لداء عضال. لا يقبل أهل المريض نزع آلات الإنعاش التي تبقي عزيزهم على قيد الحياة بقاء اصطناعياً، وهم أول من يدرك أنه لن يعود من غيبوبته، ولا يستطيع الأطباء تحمل مسؤولية موت المريض لأسباب قانونية، فيما لا ترى إدارة المستشفى مانعاً من بقاء الحال على ما هو عليه إلى أبد الآبدين ما دامت مصاريف المريض وفواتيره تُسدد في مواعيدها. الأهل والأطباء والإدارة راضون بالواقع وليس من يعاني سوى المريض.
الاستعصاء الحالي المانع لتشكيل الحكومة ليس سوى تفصيل بسيط في أزمة بنيوية تعصف بالكيان اللبناني منذ 2005، حيث كشف اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري الخلاف العميق بين اللبنانيين على معنى بلدهم وطريقة حكمه ومن ثم عودته ساحة صراعات إقليمية مؤجلة - ولو إلى حين - وظهور كل ذلك على شكل جمود سياسي شامل وانعدام أي رؤية مستقبلية للبلاد ووظيفتها في المنطقة وكيفية تدبر مواطنيها أحوال عيشهم، اقتصاديا واجتماعيا.
والانتخابات النيابية التي جرت في مايو (أيار) الماضي بعد مخاض طويل وصراع مرير على شكل القانون الناظم لها، والتي كان من المفترض أن توفر البداية الفعلية لعهد الرئيس ميشال عون، تحولت نتائجها إلى موضع خلاف آخر يتعلق بتأويل أحجام الكتل وأوزانها، ومن يحق لها الحصول على حصة وزارية وعدد الحقائب التي سينالها كل طرف. بيد أن الخلاف هذا ليس إلا الترجمة الأخيرة للأزمة العميقة التي تتخذ شكل العطب المزمن في النظام اللبناني.
صوغ الترجمة هذه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمآلات الثورة والحرب في سوريا ويفترض نقل الانتصار الذي حققه نظام الرئيس بشار الأسد وحلفائه إلى متن الحكومة اللبنانية التي يتعين عليها أن تستأنف علاقاتها مع دمشق وأن تساهم في تسهيل إعادة إعمار سوريا. بكلمات ثانية، أن تعود إلى زمن الوصاية بين 1990 و2005، لكن بأدوات محلية. في المقابل، لا يملك الطرف المهزوم، وفق هذه الصيغة، هامش مناورة يتيح له التخلي عن آخر مميزاته كقوة تنادي بالسيادة وبالتزام الحياد - على الأقل - في الصراعات العربية. فالتخلي عن بقايا الهوية السيادية سيعني انفكاك الجمهور عن زعاماته وخسارة غير قابلة للتعويض للشرعية السياسية التي بنتها هذه الزعامات على مدى عقد من الزمن من خلال قضايا المحكمة الدولية ومنع الهيمنة الإيرانية الكاملة على البلاد والحفاظ على مواقع أساسية في السلطة، سواء للطائفة السنّية أو للموارنة المعارضين لتمدد «التيار الوطني الحر» في كل الاتجاهات داخل إدارات الدولة وخارجها.
لكن لماذا لا يتجه اللبنانيون إلى تجديد العقد الذي يضمهم وإدخال الإصلاحات اللازمة على دستورهم وعلى «وثيقة الوفاق الوطني» (اتفاق الطائف) على نحو يفسح في المجال أمام الأجيال الشابة من اللبنانيين لتحقيق طموحاتها في بلدها والتخلي عن فكرة الهجرة كمخرج وحيد وفردي من حال الجمود العميم؟
المحاولات السابقة التي جرت لعقد حوار وطني، أثناء فترة حكم الرئيس السابق ميشال سليمان، وجولات اللقاءات الثنائية بين عدد من الأطراف المختلفة، انتهت من دون نتيجة، سوى تأكيد عمق الصدع بين اللبنانيين. واحدة من مميزات الصدع المذكور هي تفتت الانتماء العام وتصلب الولاءات الفرعية. أو تضاؤل الاهتمام بما تشكله الدولة والوطن والمؤسسات العامة، كالجامعة اللبنانية والتعليم الرسمي والإدارات العامة من مجال للتفاعل بين مواطنين موحدين أمام القانون، مقابل الانصراف إلى تحقيق الحماية الاجتماعية والمعيشية على هوامش الطوائف واقتصاداتها التي تحتاج دائماً إلى تغذية يؤمنها الفساد واستغلال المال العام. وهذان لهما طريق واضح هو القيادات الطائفية التي لا ترى مصلحة حقيقية لها في قيام دولة مستقرة وتتمتع بالمناعة أمام الفساد ومحاولات الهيمنة السياسية - الطائفية.
يضاف إلى ذلك أن قدرة الطوائف وأحزابها على اللعب على وتر الخوف من الآخر ومن الشر الذي يضمره، من جهة، والنجاح النسبي في الإنفاق على شبكات أمان اجتماعية خاصة، من جهة ثانية، وقدر من التكافل والتضامن بين الجهات المسيّرة لاقتصاد الظل (الرمادي) من مختلف الطوائف والمذاهب، يغلق إغلاقاً نهائياً أي مشروع تغيير سياسي يستند إلى فكرة استعادة الدولة لدورها الحصري في توفير الأمن والخدمات والرعاية. المفارقة أن الممثلين الحاليين للدولة الذين يتقدم عند أكثرهم الهمّ الحزبي والشخصي على نظيره الوطني، لا يبدون كبير اكتراث بموضوع الدولة ودورها. فأكثر ما يشغل وقتهم، على ما يبدو، هو منع الجهة المنافسة من تحقيق نقاط في صراع لا أفق له باستثناء تعزيز مكاناتهم الشخصية وثرواتهم وفرص بقائهم في السلطة. عليه، تبدو الدولة كاليتيم على مائدة اللئيم، لا ناصر لها ولا مدافع عنها وبالتالي عن مصالح أكثرية اللبنانيين.
علة ذلك أن القراءات المختلفة التي يجريها كل من أطراف السلطة المؤتلفين في حكومة هدفها التغطية على الانقسام الوطني وإدارته إدارة يومية، يعطي لنفسه موقعاً يعفيه من التنازل للخصم الذي لا تجمعه به رؤية مشتركة للوطن، أولاً، وتعفيه أيضاً من الخضوع لمحاسبة جمهوره الذي أدى قسطه في الانتخابات الماضية وجدد الولاء والشرعية للطبقة السياسية المنصرفة إلى شؤونها الخاصة، ثانياً.
بيد أن ذلك لا يعني أن البهلوانيات السياسية باتت عاجزة عن الإتيان بمخرج لمشكلة تأليف الحكومة؛ ذلك إن التجربة تقول بتوفر مخارج من مصادر تشبه قبعة الساحر، إذا أفلح السياسيون في إعادة تقسيم الفوائد والمغانم على بعضهم. أما المشكلة العميقة الأثر فشأن آخر، إذ إنها ستلازم الاجتماع السياسي اللبناني في المدى المنظور إلى أن يحين وقت يتضح فيه لأكثرية اللبنانيين خطر الطريق المسدود الذي يسيرون فيه وعبث الرهان على طبقة سياسية لا شيء لديها لتقدمه لهم غير الخوف والفقر ولغة العصبيات القاتلة.