فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

الصين تعزز توجهها نحو المنطقة العربية

غالباً ما كانت منطقة الشرق الأوسط الأبعد في سلم الاهتمامات الصينية، والأسباب في ذلك متعددة ومتداخلة بعضها يتعلق بسياسات الصين الداخلية والخارجية، وأخرى تتصل بواقع منطقة الشرق الأوسط ومكانتها في السياسة الدولية.
غير أن متغيرات تواصلت في العقود الثلاثة الأخيرة، غيرت من طبيعة النظرة الصينية للشرق الأوسط، وهذا ما يؤكده خطاب الرئيس الصيني شي جينبينغ أمام الدورة الثامنة لمنتدى التعاون الصيني العربي الذي انعقد في العاشر من يوليو (تموز) الحالي في بكين بحضور عربي واسع، حيث أعلن عن قروض صينية لدول عربية تبلغ عشرين مليار دولار، تخصص لمشاريع التنمية في تلك البلدان.
المبادرة الصينية الأخيرة، لا تنفصل عن مقاربة صينية مع الواقع القائم في علاقات الصين مع البلدان العربية، وأساس المقاربة خطان، الخط الأول غرق عدد من أسواق الدول العربية بالسلع والبضائع الصينية، بل وتلك التي تجسد تقليداً لبضائع محلية الصنع، كما في فانوس رمضان المصري من صنع صيني في دكاكين خان الخليلي وسط القاهرة القديمة، بالتوازي مع ما يحمله التجار العرب من نماذج سلع إلى الصين طالبين من الشركات الصينية إنتاج مثيلاتها وفق أسعار محددة، تتناسب وحاجة أسواقهم من جهة ومستويات القدرة الشرائية للمستهلك في بلدانهم من جهة أخرى.
والخط الثاني في المقاربة الصينية، تمثله العلاقات الاقتصادية الصينية - العربية، والأهم فيها الاستثمارات في عدد من الدول العربية، والمقدر حجمها بنحو 30 مليار دولار، أكثرها في السودان، حيث وصلت الاستثمارات هناك إلى خمسة عشر مليار دولار مستثمرة في قطاع النفط والغاز، وثمة استثمارات أخرى في مفاصل أخرى للاقتصاد السوداني وخاصة في القطاع الزراعي، والتي بدأت بستين مليون دولار، وقد وصل حجم الاستثمارات الصينية في الإمارات إلى تسعة مليارات دولار في العام 2017 موزعة على قطاعات مختلفة، إضافة إلى استثمارات صينية بمصر تصل إلى ثلاثة مليارات دولار موزعة في مختلف قطاعات الاقتصاد المصري، وثلاثتها أمثلة عن حجم وميدان الاستثمارات الصينية.
ويؤشر التوجه الصيني نحو البلدان العربية إلى جملة حقائق، لعل الأبرز فيها أربع حقائق، أولاها تصاعد المنافسة بين القوى الدولية الكبرى، حيث تتواصل الحرب على جبهة الاقتصاد والموارد بين الدول وخاصة بين الولايات المتحدة والصين وأوروبا، والثانية توجه العملاق الصيني للتمدد في منطقة، كانت في حيز الاحتكار الغربي السياسي والاقتصادي، وهو احتكار يواجه اليوم أزمة داخلية وأزمة في علاقاته بالمنطقة، مما يفرض على الغرب إعادة صياغة علاقاته مع المنطقة المنهكة بالصراعات والحروب الداخلية والبينية، مبتعداً عن الانخراط فيها سياسياً وعسكرياً، وكله يدفع الصين للتقدم عبر بوابة الاقتصاد للانفتاح على المنطقة.
ولا ينفصل التوجه الصيني نحو البلدان العربية عن استراتيجية صينية، يجري الاشتغال عليها منذ سنوات طويلة في التمدد نحو أفريقيا مروراً بالبلدان العربية القريبة فيما يسميه الصينيون طريق الحرير البحري، حيث أقامت الصين في إطاره وجوداً متعدد الأشكال السياسية والاقتصادية والعسكرية في جيبوتي، وبنت قاعدة بحرية هي الأولى للصين خارج حيزها الآسيوي، ومنطقة حرة هي الأهم في أفريقيا، وموّلت استثمارات، تزيد عن أربعة عشر مليار دولار في قطاعات اقتصادية مختلفة لخدمة وحماية استثمارات صينية في أفريقيا، وصلت إلى مائة مليار دولار.
والحقيقة الثالثة، أن دول المنطقة وبحكم التدهور الاقتصادي الذي تعانيه بعضها، وانخفاض الموارد، وسوء الإدارة، تجد نفسها مضطرة للذهاب إلى علاقات أقل تكلفة مع دولة تتمتع بمكانة وإمكانيات دولة عظمى، وتمثل نموذجاً ناجحاً في النمو والمنافسة، للاستعانة بقدراتها وخبراتها في التغلب على التردي الحاصل في كثير من البلدان العربية، أو على الأقل في الحد من هذه الترديات.
والحقيقة الرابعة، أن ثمة طموحات مشتركة صينية - عربية في أن تلعب الصين دوراً في إعادة إعمار بعض البلدان العربية، التي دمرتها الحروب الداخلية، والتي تتهيب الاستثمارات الغربية الانخراط فيها، أو أن شروطها الاستثمارية أكثر تشدداً مما يحتمله واقع تلك البلدان، مما يجعل الصين طرفاً أولا في مهمة إعمار تلك البلدان على نحو ما يمكن فهم ما قاله الرئيس الصيني في كلمته بمنتدى التعاون الصيني - العربي من أن القروض ستخصص لـ«مشاريع توفر فرص عمل جيدة، وسيكون لها تأثير اجتماعي إيجابي في دول عربية لديها حاجات لإعادة الإعمار».
خلاصة القول، إن الصين في ظل التنافسات الدولية الكبرى، تسعى إلى تمدد في الواقع العربي في إطار استراتيجيتها العالمية مستفيدة من انكفاء غربي، ومن احتياجات دول المنطقة، وهي تتجاوز في مساعيها الجديدة، السياسات المحدودة التي طبقتها في السابق إلى سياسة شاملة، تشمل أغلب بلدان المنطقة لا الدول الفقيرة فحسب، وهو ما أكدته المشاركة الخليجية الخاصة في أعمال منتدى بكين الأخير.