«السفر هو الشيء الوحيد الذي تُنفِقُ عليه لكنَّك تزداد غنى» مقولة قرأتها ولكني لم أتمكن من معرفة صاحبها، وإلى أن أكتشف العبقري الذي أطلقها فلا يسعني إلا أن أبدأ حكايتي المتواضعة منها.
في أطول رحلة قمت بها من حيث الأميال، ومن حيث الجغرافيا، ومن حيث القارة، اكتشفت أشياء لم أكن أعرفها ومشاهد لم يألفها نظري، لأني زرت تشيلي الواقعة على حافة العالم وفي آخره فعلياً.
ففي صباح صيفي ساخن من صباحات دبي انطلقت الرحلة الأولى لطيران الإمارات إلى تشيلي، ويا له من شعور عندما أقفلت الأبواب ودوى صوت محركات «البوينغ» على الإسفلت الساخن، مدركة من قبل أن الرحلة تستغرق 20 ساعة، دون ذكر الساعات الـ6 من لندن إلى دبي.
الشعور كان غريباً ولكنه ليس مريباً، لعدة أسباب من بينها حبي وولعي بالسفر، فأنا أشعر بالغبطة بمجرد الوصول إلى أرض المطار، لأن السعادة هي طريق السفر، وليس وجهته، وعندما تكون الوجهة جديدة مثل تشيلي، فحينها أثني على دالاي لاما عندما قال: «مرّة في السنة اذهب إلى مكانٍ لم تذهب إليه من قبل»، وتشيلي ليست أي وجهة إنما هي حلم بالنسبة لعدد كبير من محبي السفر، فمن شاهدها على خريطة العالم يتذكر شكلها المستطيل والفريد، ولقبها «تشيلي على حافة العالم» أو «في آخر العالم».
واخترت هذه المقدمة واعذروني لو كانت طويلة بعض الشيء لأصل إلى موضوع آخر يمت بالسفر بصلة، ولكن بعض المسافرين على الرحلة نفسها لا يمتون للسفر بأي علاقة لا من قريب ولا من بعيد، وسأقول لكم لماذا؟
لم يتعب أحدهم نفسه للاطلاع على جدول الرحلة، ولم يكن على دراية بموقع تشيلي ليتفاجأ، وهو طائر بين الغيوم ومعلق فوق المحيط، أن الرحلة ستستغرق 20 ساعة، وراح أخونا يطلق صراخه من أعماق حنجرته الحنونة، ولم يقتنع بأن قرار منع التدخين على متن الطائرات هو قانون دولي، ويعاقب عليه كل من لا يلتزم به.
برأيكم كيف يمكن لمسافر من المفترض أنه مثقف أن يكون خبر منع التدخين على متن الطائرات غاب عنه؟
كانت الرحلة تضم وفداً رسمياً من مسؤولين وصحافيين ورجال أعمال، بالإضافة إلى مسافرين سياحيين. وبعد هبوط الطائرة وبعد الكلام والسلام على بعض من الصحافيين المشاركين بالرحلة، اقتربت صبية في العقد الثاني من العمر عربية الهوية، ولكنها تكتب باللغة الإنجليزية، وقالت: «سمعت أنك متخصصة بالسياحة وقمتِ بالمشاركة بعدة أسفار مشابهة، من هم أصعب في الرحلات العرب أم الأجانب؟».
ضحكت كثيراً وقلت لها ومن دون تردد: «العرب»، فأجابت: «هذا ما أعتقده أنا أيضاً، إنها مشاركتي الأولى وأعتقد أن المشاركين العرب متطلبون وعشوائيون في إطلاق الآراء والتعبير عنها».
وبالفعل تلك الصبية فتحت شهيتي على الكتابة والتعبير عن امتعاضي من بعض العرب «المثقفين» الذين ينعمون بفرصة السفر إلى أجمل بقاع العالم، فبدلاً من الامتنان والتقدير والشكر، يتأففون وينتقدون وينزعجون، ولا يلتزمون بالمواعيد، ويتسببون في تعكير أجواء الرحلة على أشخاص جادين في عملهم.
والتأفف يكون لعدة أسباب، قد يكون له علاقة بالأكل، أو اختيار الأماكن السياحية أو حتى أوقات الانطلاق وحتى مقعد الطائرة، والغريب هنا هو أن المسافر نفسه من هذه النوعية لو كان مسافراً على نفقته الخاصة لكان اختار أرخص مقعد، وإذا استدعى الأمر لربط جسده بحقيبة السفر وسافر في خزائن الأمتعة لتوفير المال.
الامتنان نعمة، ومن لا يقدر السفر لا يمكن أن يقدر أي شيء، وأسوأ ما في الأمر هو أن العرب كانوا أفضل الرحالة الذين سبقوا عصرهم، ولكن اليوم سبق عصر السفر والترحال بعض العرب.
TT
السفر على الطريقة العربية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة