أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

واتس آب يا آنسة

عندما انقطعت خدمة برنامج «واتس آب» عالميا قبل أكثر من أسبوع، كنت أحادث عددا من أصدقائي. وعلى حين غرة، توقفت الخدمة في حدود الساعة الثامنة مساء بتوقيت لندن، واستمر العطل حتى منتصف الليل.
في البداية ظننت أن ثمة عطلا بجهاز هاتفي المحمول أو شبكة الاتصال، ثم سألت أحد جيراني في المنزل فأخبرني أنه يعاني ذات المشكلة رغم أنه يتعامل مع شركة محمول أخرى.
تحولت مجبرا إلى استخدام برامج أخرى لمحادثة أصدقائي: «فيس بوك» أو «فايبر» أو «بلاك بيري ماسنجير»، كما تابعت الأخبار على موقعي الأثير «تويتر»، فاكتشفت بعد نحو نصف الساعة أن المشكلة عالمية.
خلال الساعات الأربع التي تعطل فيها «واتس آب»، اكتشفت حجم التحول الرهيب الذي طرأ في حياتي.. صحيح أنني أعتبر من الأشخاص «المتوافقين مع التكنولوجيا» للغاية، أو كما يطلق عليهم بعض المتخصصين في الغرب e - compatible، ولدي قدر كبير من المرونة في التعامل مع الاستحداثات العصرية في هذا المجال؛ إلا أنني في النهاية أظل ابنا مخلصا لعصر الهاتف المنزلي ذي القرص الدوار.
أخذتني الذكريات إلى مرحلة الحنين للماضي، nostalgia، وتذكرت أنني حضرت منذ نحو 30 سنة عصرا كان يستوجب أن تطلب مركز الاتصالات الرئيس أولا من أجل أن تطلب رقما في محافظة أخرى.. وكانت الجملة الأثيرة وقتذاك على غرار: «إسكندرية من فضلك يا آنسة.. رقم كذا كذا».
وضحكت وأنا أفكر كيف كانت موظفة المركز (لا أعلم سر أنها كانت دائما أنثى، ليس تحيزا أو كنوع من الذكورية، لكني فقط أحب دائما أن أبحث وراء الأشياء المتكررة).. كيف كانت تلك الموظفة تظل في أغلب الأحوال مع المتصلين على الخط.. لتذكرهم باقتراب نهاية مدة المكالمة، وتسألهم في أدب جم إذا ما كانوا يرغبون في مدد جديدة. كل ذلك دون أن يشعر أي من طرفي الاتصال بأي انتهاك للخصوصية أو غرابة أن يكون معهما في محادثاتهما طرف ثالث يسمع أدق تفاصيل الحوار!!
تذكرت أيضا ذلك التلفزيون ذا الشاشة التي لا تستخدم سوى تدرجات اللونين الأبيض والأسود، والذي كان كثيرا ما يتعطل، فيسارع أحد الجالسين بقربه إلى «ضربه» للعمل مجددا؛ وكثيرا ما كان ذلك يتم باستخدام الشبشب (الخف المنزلي).. لدرجة التندر أن الشركة المنتجة كانت توزع خفا مجانيا بداخل عبوة التلفاز.
وطبعا استدعت التداعيات ذكريات عن المحتوى الإعلامي المرئي في تلك الفترة، والحقيقة أن المقارنة مع الوقت الحالي غير منصفة على الإطلاق، كون أنه لم يعد هناك محتوى حاليا رغم كل التقدم الذي وصلناه. بينما كانت أغلب البرامج مميزة للغاية في تلك الأوقات التي أسعدني الحظ بالتواجد فيها.
كذلك تذكرت عصرا كان «البيك أب» pick up player (مشغل أسطوانات إلكتروني تلا عصر الغرامافون، وليس الشاحنة المكشوفة الخلفية، يعد جد مشغل الأسطوانات الليزرية الحديث) كان أحد عوامل الزهو الاجتماعي تمايزا عن شرائط الكاسيت cassette tapes.. وطبعا كان وجوده في ذاك العصر مقترنا مع أسطوانات فرق مثل البيتلز البريطانية Beatles أو آبا السويدية ABBA أو بوني إم الأميركية Boney M، مع إطلالة مبكرة مشرقة لفرقة Jackson 5. التي أفرزت لاحقا الأسطورة مايكل جاكسون. ويجب ألا ننسى لأصحاب المزاج الموسيقي الرفيع طبعا أسطوانات الأسطورة الفرنسية إديث بياف Edith Piaf، أو اليوناني المصري ديميس روسوس Demis Roussos، أو الإسباني الشاب خوليو إجلاسياس Julio Iglesias، الذي ترك حراسة المرمى ليقتحم عالم الغناء.
لكن دورة الذكريات عادت إلى نقطتها الأولى من حيث لا أدري.. إلى الهاتف ذي القرص، ومحاولة طلب رقم خارج المحافظة.. وإلى تلك الجملة الأثيرة: «إسكندرية من فضلك يا آنسة».
ودارت دورة أخرى من ذكريات الماضي، هذه المرة عن اشتياق أذني لسماع تعبيرات من قبيل «من فضلك» و«شكرا» و«إذا سمحت».. والتي ربما تكون غابت كلية - أو للمتفائلين نقول بدرجة كبيرة - عن مجتمعنا الشرقي المعاصر. والآن، في ظل استخدام وسائل التواصل الحديثة، قلما نقول مثل هذه الكلمات في محادثاتنا.
وطبعا لم يسلم الأمر من مقارنة آداب الشارع في العصر الماضي، مع «قلة آداب» ما نحياه حاليا. كانت الفتاة تمشي وحدها في الشارع فلا يجرؤ أيا من كان أن يسمعها قولا «قد يضايقها».. واليوم، يعجز لساني عن التعبير.
كان الكهل يركب الحافلة أو القطار، فيهب الشباب تنافسا لإجلاسه محلهم.
كان الأهل لا يخشون أن يضيع طفلهم في أحد الشوارع المزدحمة، كونهم متأكدين من شهامة الناس، وأنه عائد لا محالة، رغم عدم وجود وسائل للاتصال كالهواتف المحمولة أو نشر الاستغاثات عبر «تويتر».
ببساطة كنا نحيا في مجتمع يعيشه الغرب اليوم، ونشتاق نحن إلى لمحة منه.
وكي لا أطيل في مزيد من الذكريات التي تؤجج الحنين، فالسؤال بكل مباشرة: «هل أعطانا الغرب التقنيات الحديثة فنسينا أخلاقنا؟».