فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

لنعبر من أنفاق التطرف إلى آفاق التسامح

في كل يوم تقريباً تنعقد مؤتمرات حول الإرهاب ومساراته ومآلاته وتشكلاته، ومفاهيمه، بمختلف أنحاء العالم، لأن المعضلة ليست مؤقتة ولا طارئة، ولا سهلة التجاوز، بل من العجلة الحديث عن ضمور الإرهاب بعد سحق «داعش» جزئياً، أو إعلان نهاية الصحوة بعد رفع الغطاء عنها، أو الحديث عن تلاشي جماعة الإخوان المسلمين بعد غلبة القوى المدنية عليها، أو انهيار تنظيم «القاعدة» بعد التصدع الذي أصابه.
من الجيد التمسك بالآمال، والتشوّف لآفاق عيش أقل دموية وكراهية واستئصالاً، ولكن من الناحية التحليلية لا بد من الاستعداد لأسوأ الاحتمالات.
صحيح أن تنظيم داعش ضمر في الخليج والشام والعراق، ولكنه منتعش في ليبيا وأجزاء من الساحل الأفريقي وفي بعض مناطق شمال أفريقيا، وهذا يجعل النعي له من الأخطاء الكارثية، وجماعة الإخوان المسلمين اتجهت للعمل السري في دول الخليج وهذا سلوكها دائماً؛ مع كل انكسار تتجه للعمل تحت الأرض، وكذلك الصحوة اتجهت بعد حصارها بالواقع إلى استثمار التطبيقات الإلكترونية، من خلال بعث الشكوك في الحكومات، وتجييش الرأي العام مع كل تحوّل يحدث، وتنظيم «القاعدة» لديه نشاطه القوي ويكاد يستعيد الصورة من تنظيم داعش، وعليه فإن الحكومات والمؤسسات الثقافية والإعلامية مطالبة بالمزيد من التحفز لأي ضرباتٍ مباغتة قد تقوم بها التنظيمات على المستويين الميداني (عمليات، تجنيد) أو الفكري (عبر انبعاث الخلايا النائمة).
قبل أيام عقد وزراء إعلام الدول الداعية لمكافحة الإرهاب مناقشاتٍ حول تنسيق المواقف وتطوير آليات التعاون لمواجهة دعم وتمويل واحتضان التطرف والإرهاب. وفي كلمته أخذ الشيخ محمد بن زايد تحدي الإرهاب على محمل الجد مهما كان مستوى الانتصارات العسكرية، ومما قاله إن «الإعلام يؤدي دوراً محورياً بكافة وسائله في مواجهة خطاب الكراهية والفكر المتطرف. ومواجهة الإرهاب تكمن في اجتثاث جذوره الفكرية المنحرفة وكشف زيف خطاب التنظيمات الإرهابية، واستغلالها الدين الإسلامي السمح للتغرير بالشباب في المنطقة العربية والعالم. إن محاربة التطرف والإرهاب إعلامياً وفكرياً لا تقل أهمية عن محاربته أمنياً وعسكرياً، بل قد تكون أكثر أهمية لما للإعلام من تأثير مباشر في نشر قيم التسامح والتعايش المشترك وقبول الآخر وترسيخ الإيجابية في المجتمعات، من الواجب العمل ضمن استراتيجيات استباقية قائمة على شرح مفاهيم ومضامين الخطاب الإسلامي المعتدل والمنفتح على الآخر، الداعي إلى السلام والتسامح وبث روح الأمل والخير في المجتمعات، وفضح التنظيمات والجهات التي شوهت المعاني والقيم النبيلة التي يحملها الدين الإسلامي».
هذه الرؤية تبيّن الدور الذي يمكن القيام به بغضّ النظر عن النجاحات العسكرية، وأحسب أن المواجهة الفكرية مع الإرهاب تتطلب من الفقهاء والمفكرين الحرب على عدة جبهات؛ من ذلك تطوير آلية الفقه المشبعة بالحشو، والإغراق والأحكام التفصيلية المكرورة، وذلك بغية تحريره من الترديد والتقليد، وإنقاذه من الهيمنة الآيديولوجية، إذ طوال ثلاثين سنة نجحت جماعات الإسلام السياسي في سحب البساط من مؤسسات دينية ومن ثم تحويلها لكل بنية الفقه إلى صيغة آيديولوجية وأداة تثوير سياسية، وعليه فإن تطوير آليات التناول الفقهي من قبل المؤسسات الدينية المعتدلة لم يعد ترفاً وإنما من أوجب الواجبات.
على المستوى الفكري، يؤخذ التطرف غالباً ضمن سياق ندوات إنشائية، مع استسهال في التحليل، وإهمال معرفي فاضح يحول دون معرفة أسباب انتشار الظاهرة الإرهابية. ليست مهمة المفكرين الحديث فقط عن مؤامرات استخبارية حول مسببات ولادة تنظيمات «القاعدة» و«داعش» و«حزب الله» والحشد الشعبي و«حماس»، بل الذهاب نحو المسببات الفكرية، والأدبيات والمفاهيم المبثوثة في خطاباتهم وتسجيلاتهم ومنابرهم ومطبوعاتهم. لا يمكن ضرب الإرهاب بالعمق من دون إدراك المنهج الاستدلالي الذي يتخذونه، ودراسة المفاهيم التي يدوّرونها بينهم، وفحص الخريطة الفقهية والآيديولوجية التي تسيّرهم.
إن اجتثاث الإرهاب من جذوره ليس بالأمر السهل، قد ننجح في ضربه عسكرياً وأمنياً مع كل طفرة لهذا التنظيم أو ذاك، بيد أن السحق الكامل يحتاج إلى شجاعة وعزيمة وصلابة لمواجهة الواقع الدميم وتحديه. نبدأ بالتعليم ونمشط المناهج كلها من الصفوف الأولى وحتى عناوين أطروحات الدراسات العليا، ومناهج المناقشة، والدخول فثي نقاشات قوية حول طبيعة الموقف الإسلامي من العلاقة بالآخر المختلف في الدين، وتربية الأجيال على مبادئ التسامح وصيغ الحوار وأخلاقيات التعايش، وهذا يتطلب العثور على فقهاء مستنيرين قادرين على فكّ الاشتباك بين الدين والواقع، بين الإنسان والآخر، بين الدين والدين الآخر.
والتأسيس لفقه مدني يعنى بمقاصد الشريعة أكثر من شكل التشريع هو الجسر الذي يعبر بالمجتمعات المسلمة من أنفاق التطرف إلى آفاق التسامح.
قديماً وفي القرن العاشر الميلادي، قال الفيلسوف أبو الحسن العامري: «الدين للإنسان، وليس الإنسان للدين».