د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

البيانات هي النفط الجديد

تردد مؤخراً أن البيانات هي نفط الثورة الصناعية الجديدة التي تعتمد على تكنولوجيا المعلومات في اقتصاد رقمي تتطور كياناته الاقتصادية وتتزايد أرباح شركاته بقدر ما تستحوذ على بيانات جديدة. وتجد الأسهم الأعلى قيمة في أسواق المال هي لشركات تتعامل في البيانات، منها من يسيطر على محركات البحث على شبكة معلومات الإنترنت، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو التسوق الرقمي.
ويقبل الناس على خدمات هذه الشركات مدفوعين بظاهر مجانيتها، ثم يدركون بعدها أنهم قد دفعوا مقابل هذه الخدمات من بياناتهم الشخصية وتفضيلاتهم وإفصاحهم عن أسلوب حياتهم دون علم مبين أو موافقة صريحة. ويُفاجأ المستخدمون بأنهم لا يملكون من حقوقهم القانونية شيئاً قبل هذه الشركات. ألم يوافقوا متعجلين مع بداية اشتراكهم في هذه الخدمات وفتح حساباتهم، بالضغط على أزرار تعني أنهم قد قرأوا نصوصاً قانونية مطولة، كتبت بحروف مصغرة، بما يفيد في النهاية أن للشركة مقدمة الخدمة حرية التصرف القانوني في تخزين بياناتهم والتعامل كما يشاءون في معلوماتهم؟
ربما لم يدرك الناس أبعاد استخدام بياناتهم إلا بعد انكشاف استغلال قواعد البيانات الشخصية لملايين من مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» من قِبل شركة جمع وتحليل البيانات «كمبريدج أناليتيكا»، واستغلالها في العمليات الانتخابية والتأثير عليها من خلال نظم معقدة لتحليل المعلومات الشخصية والسلوكية. هناك مثل غربي يقول إذا لم تدفع تكلفة السلعة من حر مالك، فستكون أنت نفسك السلعة. وقد كان هذا المثل على ما يبدو محل تطبيق واسع النطاق.
وإذا كانت قيمة النفط تأتي من ندرته، فإن قيمة البيانات تأتي من وفرتها المتزامنة مع القدرة الفائقة على التعامل معها وتوظيفها في مجالات ذات قيمة تجارية. وهذا يتطلب تطويراً لنظم الحواسب الآلية وتكنولوجيا المعلومات، وتحسيناً مستمراً في وسائل حماية البيانات والمعلومات من الاختراق، واستثماراً في المهارات البشرية المطلوبة لإدارة هذه المنظومة بتكامل واتساق.
ويتوقع أحد إصدارات المنتدى الاقتصادي العالمي، أنه في خلال العامين المقبلين أن تزيد البيانات المتاحة بفعل تطور الاقتصاد الرقمي ومنتجاته بمقدار 40 زيتابايت، أي 40 ألف مليار مليار (رقم 40 وأمامه 21 صفراً) من وحدات تخزين المعلومات.
ولاستيعاب ضخامة هذا الرقم، فهو يعادل قدرة تخزين معلومات خمسة مليارات مكتبة من حجم مكتبة الكونغرس. وفي المستقبل، إذا ما تحول ربع عدد السيارات المسجلة في مدينة فرانسيسكو الأميركية (470 ألف سيارة) إلى القيادة الذاتية، فإن ما سينتج سنوياً من هذا التحول سيعادل ما ينتجه 300 مليون من مستخدمي الإنترنت من بيانات، أو كل مستخدمي برنامج التواصل الاجتماعي «تويتر»، فما الذي سيترتب على مثل التحول على مستوى الدولة كلها؟
إن هناك صناعة تتطور، بشكل غير مسبوق، قوامها البيانات في كل مراحلها: جمعاً وتبويباً وحفظاً وتأميناً وتحليلاً وإصداراً ونشراً وتسويقاً.
وتتعدد الجهات المستفيدة من هذه البيانات؛ فالحكومات تستخدمها لأغراض التخطيط ورسم السياسات العامة ومتابعتها واستهداف المستفيدين منها، والشركات تطلبها لإدارة أعمالها ورفع كفاءتها وتسويق منتجاتها وزيادة أرباحها، وعموم الناس يحتاجون إليها لمعرفة ما يدور حولهم وتسيير حياتهم واتخاذ قراراتهم على بينة.
وعند النظر إلى أحوال الدول العربية من حيث مدى استعدادها لعصر المعرفة والاقتصاد الرقمي، والتهيئة للتقدم تنبغي مراجعة منظومة البيانات القومية. وقليل من هذه الدول لديه منظومة ترقى لمتطلبات وفرص الزمن الراهن، ناهيك عما تستوجبه نقلة تنطلق بمجتمعاتها واقتصاداتها في سباق الأمم في عالم شديد التغير بفعل «تكنولوجيا مربكة» وعوامل أخرى.
تحتاج هذه الدول إلى سياسة تستند إلى تشريعات متكاملة لتنظيم المعلومات والانطلاق بالمعارف، أساسها نظم بيانات متطورة ومنضبطة تحمي الخصوصية وتصون السرية، وتجعل الناس ملاكاً فعليين لمعلوماتهم الشخصية، ولا تعوق التنمية والابتكار والتطوير والحق في المعرفة في الوقت ذاته. قد تبدو هذه أهدافاً متعارضة للوهلة الأولى، لكن الاستفادة من تجربتين معاصرتين لأوروبا والهند في إدارة منظومة البيانات وحمايتها ستيسر من أمر الجادين في التطوير والإصلاح.
فمنذ أيام، وتحديداً في الخامس والعشرين من شهر مايو (أيار) الحالي، طبّق الاتحاد الأوروبي اللائحة العامة لحماية البيانات. وهذه اللائحة التي صدرت في عام 2016 تستند إلى التشريعات الأوروبية لحماية البيانات وأعطت للمخاطبين به مهلة عامين للتطبيق الكامل. وتمنح قواعد اللائحة الجديدة حماية لحقوق المستخدمين، منها حقهم في سؤال الشركات والبنوك والمحال التجارية، أي جهة عن تفاصيل المعلومات التي يحفظونها عنهم، وإذا كان هناك شك في سوء استخدام هذه المعلومات يحق للشخص اللجوء لجهة رقابة مستقلة للتحقيق، ويمكن القيام بهذا بشكل فردي أو جماعي.
كما يحق للمستخدمين نقل معلوماتهم وبياناتهم من شركة لأخرى منافسة لها دون تكلفة عليهم. ولهم الحق كذلك في محو بياناتهم إذا لم تعد هناك حاجة موضوعية إلى الاحتفاظ بها. كما أصبح على الشركات الاستئذان قبل استخدام البيانات الشخصية، بدءاً من استخدام البريد الإلكتروني في التعريف بمنتجاتها أو التسويق لأنشطتها؛ ولعل القارئ قد لاحظ هذا الكم الكبير من الرسائل الإلكترونية لشركات مخاطبة بهذا التشريع، تستأذن في الموافقة على استمرار رسائلها أو توقفها حال الرفض.
وتؤخذ قواعد حماية البيانات بجدية، حيث فرض التشريع الأوروبي عقوبات مالية رادعة في حالة المخالفة تبلغ 4 في المائة من إجمالي الإيرادات أو مبلغ 20 مليون يورو أيهما أكبر.
وظهرت مع هذا التشريع الحاجة إلى تكليف مسؤولين عن حماية البيانات بالشركات، ونشأت وانتشرت مؤسسات تقدم خدماتها القانونية والتقنية لهذه الشركات، وكذلك للمستخدمين للتوافق مع التشريعات الجديدة ومتطلباتها. وحتى تحقق هذه التشريعات الجديدة أهدافها، تلزم مراجعة قوانين حماية المنافسة لتتعامل مع الممارسات الاحتكارية التي شهدتها ساحة البيانات وأسواقها.
من ناحية أخرى، نجد تجربة الهند الجديدة تتعامل مع خصوصية البيانات من جذورها، بجعل الأفراد ملاكاً لبياناتهم في كل المراحل، وبإلزام جمع بيانات أساسية محدودة ومحددة للتعرف على هوية الفرد الطالب للخدمة والتحقق منها، فلا تتجمع معلومة متكاملة عن الفرد في شركة أو جهة ما، لكن تحصل فقط على ما يحقق تقديم الخدمة، وتظل الصحيفة المتكاملة للفرد ملكه وحده. هب أن مريضاً هندياً يحتاج إلى علاج، فسيقدم بنفسه معلومة مطلوبة لمعمل التحاليل وأخرى لمركز الأشعة الطبية، وعند تحويله إلى مستشفى من الطبيب المختص سيتم تجميع البيانات من خلال مُجمّع للبيانات يتيحها في سجل يتاح للمستشفى، فلا تحتكر المعلومة جهة واحدة تستغلها. وعلى هذا النحو يعمل النظام الموحد الرقمي الهندي الذي يستهدف مد الخدمات الاجتماعية للمواطنين كافة، وكذلك تفعيل برنامج الشمول المالي الذي حقق طفرة في زيادة حائزي الحسابات المصرفية بعشرة أمثال في خلال ثلاث سنوات.
يتطلب الأمر إذن تنظيماً للبيانات بما يلزم لمتطلبات العصر ومستجدات المستقبل، وليس وفقاً لاعتبارات بالية تغيرت في غفلة ممن ظن أنها لن تبلى. فلا مبرر لحديث عن مجتمع المعرفة بلا معلومات، التي لا وجود لها أصلاً من دون بيانات.
فهرم المعرفة قاعدته هي البيانات المبدئية، ثم تُعرّف هذه البيانات وتوصف بالإجابة عن أسئلة مثل: ماذا ومَن وأين وكم ومتى، فتصبح معلومة تُشكِل وسط الهرم. ثم تُضاف إلى المعلومة الخبرة والتحليل والتقييم، فتصبح معرفة تمثل قمة الهرم.
وقد ترتقي المعرفة باكتسابها إلى فكر في ذهن المرء يوجه بها أموره ويؤثر بها في محيطه وفي غيره من الناس، حسبما تيسر له. وفي النهاية قد يكون المرء في تعامله مع هذه المعرفة حكيماً أو من الرُعن الحمقى.