عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

ما وراء احتجاج «ضريبة السمنة»

احتجاج نسائي تدارى وراء تسونامي التغطية الصحافية لزفاف الأمير هاري. إضافة جديدة إلى موضة الاحتجاج على رموز تاريخية وعادات تفوق أعمار زعماء الاحتجاج بعقود طويلة.
أصبح الاحتجاج مهنة لجيل يتمتع بإمكانات لم يحلم بها جيلنا في سنوات تقشف ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما كنا ندّخر كل شيء وترتق أمهاتنا الجوارب فشببنا بجلد سميك نعتمد على أنفسنا. واحتجاجاتنا كانت لحقوق الإنسان والسلام العالمي وإنهاء الحرب.
الاحتجاج الجديد لسيدات أجسامهن أكبر من مقاسات الملابس المتوسطة. المقاسات تتراوح ما بين 10 للموديل أو المانيكان، و18 أو 20 للممتلئة الجسم. ما بين «غصن البان» و«شجرة الجميز» في تعبيرات أستاذ الصحافة الراحل مصطفى بك أمين.
تراوُح مقاسات الملابس اعتادته البشرية منذ أن التقطت حواء أوراق التوت، ولذا فالاحتجاج الجديد يثير التساؤلات حول محاولة الأجيال الجديدة الطبيعية ومنطقها البديهي.
النسويات يحتججن على ارتفاع سعر ثوب مقاس 18 على مثيله من مقاس 10 أو 12، يطالبن بالمساواة في الأسعار، ويتهمن صناعة الملابس والأزياء بتنفيذ «مؤامرة ذكورية» على الجنس اللطيف. صناعة الأزياء تدرّ 66 بليون جنيه إسترليني (89 بليون دولار) دخلاً سنوياً للاقتصاد البريطاني.
النسويات اتهمن المسؤولين عن الموضة (الرجال فقط، فقد برَّأن النساء من التهمة طبعاً) بمعاقبة البدينات «بضريبة السمنة».
المتحدثة باسم محلات «توب – شوب» العبية وملابسها بأثمان في متناول الطبقات البسيطة، أجرت مقابلات تلفزيونية لتشرح أن المقاس الأكبر يحتاج إلى قماش أكبر، ومزيد من إكسسوارات الزينة ووقت أطول في الحياكة.
أمر بديهي لأبناء جيلي، أن سلعة فيها خامات ووقتها أكثر تكلفةً سيكون سعرها أعلى من أخرى أقل تكلفة.
ولأن المجتمعات الديمقراطية المفتوحة في حوار دائم، فقد دخلت في الجدل أطراف أخرى أثارت قضايا بعيدة عن السبب الأصلي وهي تكلفة التصنيع.
قالوا إن السمنة تضر بالصحة، خصوصاً أن الأطباء ينصحون الناس بإنقاص الأوزان إذا زادت على المعدل المناسب، ويضعون في عياداتهم جداول تعرض الوزن المناسب حسب العمر وطول الإنسان والجنس. وجادل هؤلاء بأن ارتفاع الثمن سيكون حافزاً على إنقاص الوزن.
الدافع وراء الفكرة هي ممارسات الحكومات المتعاقبة في العقود الثلاثة الأخيرة. الحكومات تصدر قوانين، معظمها بناءً على نصيحة الأطباء والمسؤولين عن الصحة ودعاة الإصلاح الاجتماعي. قوانين توظّف الضرائب والرسوم على السلع والخدمات لتغيير سلوكيات الناس وعاداتهم الاستهلاكية. ومثالها الضرائب الباهظة على السجائر والدخان بقصد دفع الناس إلى الإقلاع عن التدخين. والضريبة على السكر التي فُرضت هذا العام فدفعت بالمنتجين إلى إنقاص كمية السكر في المشروبات والمأكولات لتجنب رفع الثمن على المستهلك.
وربما لرواج الفكرة، واعتراض كثير من الليبراليين (دعاة حرية الفرد) على تدخل الدولة في السياسة الضرائبية، في محاولة تغيير سلوكيات الناس، تحوَّل الفارق في ثمن الفستان إلى حملة سياسية حول المساواة بين النحيفة والبدينة.
الحركة النسائية، التي ازدادت تطرفاً في السنوات الأخيرة لتتجاوز مجرد المساواة بالرجال إلى المواجهة مع الجنس الآخر، وظّفت سلاحاً جديداً في المعركة ضد الجنس الخشن.
تدّعي النسويات أن المجتمع الذكوري يفرض ذوقاً معيناً في تقييم النساء حسب المظهر مما يجعل المجتمع أقل تقبلاً للسيدة الممتلئة الجسم، واعتبروا أن ارتفاع ثمن الأردية من المقاسات الكبيرة هو أعراض «مرض اجتماعي».
تذكّرتُ عبارة «الطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الحسنة»، وتُنسب إلى المفكر الإنجليزي صمويل جونسون (الدكتور جونسون 1709 - 1784) وكان مراقباً ناقداً للتغيرات الاجتماعية في القرن الثامن عشر. لكن جونسون اقتبسه من القديس برنارد الكليرفاليني (1091 – 1153) بقوله «إن جهنم مملوءة بالرغبات الحسنة».
الأقوال المأثورة هي انعكاس لحكمة من تجربة عملية.
المسؤولون يرسمون خطة لمشروع إصلاحي بنية حسنة، فيصدر قانون لتطبيق المشروع أو تنفيذ الفكرة وتنفق عليه خزانة الدولة. ورغم أنها «أموال الدولة» حسب التعبير المتداوَل، فهي في الحقيقة أموال الناس الذين يعرقون في الإنتاج وإدارة الاقتصاد، وتملأ ضرائبهم الخزانة. ولذا تجد وزارة المالية من أكثر الجهات تحمساً لسياسات تغيير سلوكيات وعادات الناس بفرض ضرائب على ما يضر بصحتهم، كارتفاع الضرائب على وقود السيارة، أو فرض رسوم البيئة على دخول السيارة وسط المدينة.
لكن مع تنفيذ المشاريع، أو تطبيق القوانين تؤدي هذه الخطط، عن دون قصد، إلى تغيير التفاعلات والتعاملات الاقتصادية المحيطة بالمشروع، أو تغيير طريق تعامل أفراد المجتمع وبالطبع سلوكياتهم... فتجد الطريق الذي رسمته خريطة مشروع النية الحسنة يؤدي إلى جهنم، أو تحويل حياة الناس الذين يفترض أن يساعدهم المشروع إلى جحيم بيروقراطي. عالم الاجتماع الأميركي روبرت ميرتون (1910 - 2003) دفع للصحافة بعبارة «قانون النتائج غير المقصودة The Law of unintended consequences». خطة ركز صاحبها على هدف محدد من منظور ضيّق، وفاته أخذ العوامل الأخرى في الاعتبار فتترتب على تطبيق الخطة نتائج غير محسوبة.
جيلنا كان يعتمد على النفس من صغير الأمور إلى كبيرها، فلم تكن الدولة أو المسؤولون يتدخلون في حرية المواطن لركن السيارة أمام منزله، أو ماذا ينفق على السجائر وما يضع في جوفه من مشروبات وما تحتويه من سكر.
تدخُّل الدولة في السنوات الأخيرة تجاوز زيادة الضرائب لتغيير السلوك ليصل إصدار قوانين جعلت من إلقاء نكتة لا تعجب البعض «جريمة كراهية»، وتبعت المؤسسات والإدارات الجامعية الموضة، استجابةً لرغبات الاتحادات الطلابية لتصل إلى حد المطالبة بمنع مفكرين بارزين من إلقاء محاضرات ادّعى الطلبة أن محتواها رجعي أو يثير حساسيتهم. وتيارات تطالب اليوم بإزالة تماثيل مستكشفين ومستثمرين أسهموا في بناء جامعات أو تركوا أوقافاً تدفع مصروفاتهم الدراسية.
النية الطيبة لحماية الفرد أدت إلى سلسلة من التفاعلات في المجتمع غيّرت من مفهوم الاستقلالية، فزاد اعتماد الفرد على الدولة بدلاً من الاعتماد على النفس. وقد يبدو الاحتجاج لتغيير «المعتاد»، أمراً طريفاً كحال مقاسات الملابس، لكنه يعكس ذهنية جيل يتوقع أن يحصل على ما يريد ويغيِّر ما لا يعجبه بلا مقابل من الجهد.
المشكلة عالمية، خريجو الجامعات ينتظرون من الدولة إيجاد فرص عمل، وتوفير السكن ومصاريف الزواج بدلاً من رسم خطط مشاريع فردية أو مشاركة مع زملائهم والاقتراض من البنوك للاستثمار كما فعل جيل الثورة الصناعية في إنجلترا، وجيل نهضة مصر في العشرينات من القرن الماضي.