خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الفكاهة عند الحرفيين

لم يشتهر العراق في العصر الحديث كما اشتهرت مصر بالظرفاء. ولكن كان هناك عدد غير قليل من المنكّتين والظرفاء الذين تميزوا في العهد الملكي، كعبد المجيد الشاوي والدكتور فايق شاكر والقاضي عبد العزيز الخياط، وطبعاً الشاعر عبود الكرخي.
ومن الملاحَظ أن الكثير من ظرفاء العراق كانوا موجودين بين أصحاب الحرف؛ الحلاقين والخياطين والقهوجية. اشتهر من هؤلاء عبد الله الخياط الذي رويت عنه الكثير من المقالب والممازحات. جاءه رجل بدوي يوماً وفي يده قطعة قماش من أربعة أذرع وطلب منه أن يخيط له دشداشة منها. فقال له على العين والرأس. وعندما لاحظ الرجل هذا القبول السريع منه قال له: «لا بل اعمل دشداشتين». «على العين والرأس»، قال له الخياط. فطمع الزبون بأكثر من ذلك. قال: «اعملها ثلاث دشداشات». وبعد قليل رفع الرقم إلى أربع دشداشات. وعبد الله الخياط يقول له على العين والرأس.
عاد البدوي بعد بضعة أيام ليتسلم الدشداشات الأربع فإذا به يجد أربع دشداشات صغيرة لا تصلح لغير اللعابات. وعندما ثار الأعرابي على ذلك استشهد الخياط بتحكيم أرباب الدكاكين في السوق فغُصوا من الضحك عندما سمعوا بحجم القطعة التي جاء بها وعدد الدشاديش التي أراد منها.
كانت أيام خير وكان مجلسه عامراً بالفكاهة واللطافات. ولكن ضيوفه كثيراً ما أرهقوا ميزانيته المحدودة. جاءه يوماً عدد غير قليل من أشراف بغداد دونما موعد أو استعداد. وكانت عادة الناس ألا يبخلوا على ضيفهم في شيء، فيقدمون له أطايب الطعام حالما يحين وقت الطعام. ولكن عبد الله الخياط لم يملك عندئذ ما يقدمه لهم ولا ما يشتري به طعاماً لهم. ومع ذلك فقد فرش البيت لهم بالحصران والوسائد وجلس يسامرهم. ما هي إلا دقائق حتى وجدوا أمامهم سفرة عامرة بالأرز واللحم والخضراوات من بامية وباذنجان وجزر وسلطة وكل شيء. أكلوا هنيئاً مريئاً ثم قاموا للانصراف شاكرين. فلم يجدوا أحذيتهم. فسألوه عنها. فأجابهم قائلاً: «أيّ قنادر؟ ما انتو أكلتوها الآن». قالوا: «ما هذا؟ ما تقصد؟ أكلنا قنادرنا؟»، فقال لهم: «جئتم بغير موعد. وجلستم تنتظرون الطعام، وأنا رجل مفلس، لم يكن لي غير أن أبعث بأحذيتكم رهناً عند المطعم ليعطيني من الأكل ما أكلتم. ابعثوا له بفلوس الأكل وفكوا أحذيتكم من الرهن». فضحكوا على المقلب. ولم يجدوا مفراً من دفع ثمن عشائهم!
ومن الحكايات التي رُويت عنه أيضاً أن امرأة استوقفته وطلبت منه أن يقرأ رسالة وصلتها من ابنها الجندي. وكانت رسالة سيئة الخط إلى درجة يصعب قراءتها. فظل عبد الله الخياط ينظر في الرسالة محاولاً فهم ما ورد فيها. وعندما لاحظت المرأة سكوته ساورتها أفكار سوداوية كما نتوقع. تصورت أن ابنها قد مات أو جُرح أو أصابه مكروه. وراحت تتوسل إليه أن يقول لها ما في الرسالة. فاضطر إلى أن يعترف لها بأنه لم يستطع قراءتها فصاحت به: «كل هالعمامة على رأسك وما تقدر تقرأ سطرين؟!».