عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«البدون» البريطانيون!

أزمة تعصف بالحكومة البريطانية، والمعارضة تطالب وزيرة الداخلية بالاستقالة، فيما يعرف بقضية مهاجري الـ«ويند رش».
كررت وزيرة الداخلية، آمبر رود، الاعتذار علناً، وفي مجلس العموم، وتبعتها رئيسة الوزراء تيريزا ماي، لجيل الـ«ويند رش»، من المهاجرين وأبنائهم، ومعظمهم داكنو البشرة.
من هم جيل الـ«ويند رش»؟
تخيل مواطنين (بعضهم في السبعين من العمر) يكتشفون فجأة عند العودة إلى بلدهم الذي عاشوا فيه معظم حياتهم أن «باسبورهم» وثيقة غير قانونية!
وقد ظهرت هذه الحالات الفردية قبل سنوات، لكن جاء دور الصحافة الحرة، بوصفها مؤسسة السلطة الرابعة، والدعامة الأساسية للديمقراطية، لتكشف أزمة مثل جبل الثلج العائم: أكثر من 57 ألف مواطن بريطاني ليسوا مواطنين في نظر القانون؛ 15 ألفاً أصولهم من جامايكا، و13 ألف هندي، و29 ألفاً من أصول أخرى. لكن قوانين هذه البلدان لا تعتبرهم مواطنيها، أي أنهم «بدون» (اختصار تعبير «بدون جنسية محددة»).
واقعياً، من الجوانب الثقافية والاجتماعية هم بريطانيون، ولا يعرفون مكاناً آخر يلجأون إليه سوى بريطانيا؛ بريطانيون مثلما كررت رئيسة الوزراء في اعتذارها.
والـ«ويند رش» هو اسم السفينة «ويند رش» الإمبراطورية التي وصلت إلى ميناء تيلبوري، في مقاطعة إيسيكس (ساعة بالسيارة شرق لندن)، في 22 يونيو (حزيران) 1948، وعلى متنها 492 من مواطني توغو وجامايكا وترينيداد، ومعظمهم من الأطفال.
ليسوا مهاجرين بالمعنى الحديث للكلمة؛ كانوا من رعايا التاج في مستعمرات بريطانية. استدعتهم الحكومة في لندن، كجزء من سياسة البحث عن الأيدي العاملة بسبب النقص الشديد في المهارات الأساسية، خصوصاً في قطاعات الصناعة والمهن الطبية والرعاية الاجتماعية، بعد الحرب العالمية الثانية. معظم هؤلاء الوافدين في الدفعات الأولى كانوا من الأطفال، وتوالى وصول الدفعات حتى عام 1971، عندما انتهت سياسة استدعاء أبناء المستعمرات (الكومنولث بعد استقلالها)، وإصدار حكومة إدوارد هيث المحافظة (1970 - 1974) قانون الجنسية الجديد الذي دخل حيز التطبيق في عام 1973. فقد كانت هناك كفاية من الأيدي العاملة من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت بريطانيا تلتحق بالسوق الأوروبية المشتركة (الاتحاد الأوروبي فيما بعد)، حيث كان أحد الشروط حرية التنقل والإقامة بين مواطني دول السوق، التي حددت سياسة وقوانين الهجرة والجنسية لتميل لصالح مواطني السوق الأوروبية على حساب الوافدين من تجمعات أخرى تاريخية (كالكومنولث في حالة بريطانيا مثلاً، وأميركا اللاتينية في حالة إسبانيا).
ولوضع الأمر في الإطار التاريخي، وباعتراف الأحزاب والحكومة والتيارات، من أقصى اليمين (المعادي للهجرة) إلى أقصى اليسار، فإنه من دون هؤلاء الوافدين (جيل الويند رش)، البالغ عددهم 467 ألفاً، ما كان يمكن لوسائل النقل والصناعة والتجارة أن تدور، وتبنى بريطانيا في العقود الأربعة التي تلت الحرب العالمية الثانية المدمرة. أبناء هذا الجيل من الملونين هم الآن في مجلس الوزراء، وفي المناصب العليا، وضباط في الجيش، وأطباء؛ أي أن الأمر ليس عنصرية.. فماذا حدث؟ وكيف أصبح 57 ألفاً منهم «بدون»؟
الإجابة في كلمة واحدة: «البيروقراطية».
البعض استخدم التعبير الدرامي المسرحي الذي دخل قاموس الاستعمال العام: the kafkaesque nightmare، أي كابوس كافكا، أو الكابوس الكافكائي، وكان أكثر استخداماً بين الأدباء والنقاد والكتاب المصريين في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وأصل التعبير من المواقف التي تتعرض لها شخصيات مسرحيات وروايات الأديب التشيكي، الذي كتب بالألمانية، فرانز كافكا (1883 - 1924). شخص عادي تسحقه البيروقراطية، ويجد نفسه مثل البطل التراجيدي في الأساطير الإغريقية يصارع قوى لا يمكن للإنسان العادي مقاومتها.
وبينما في الأخيرة يناضل البطل التراجيدي معركة محسومة مقدماً لصالح الأقدار، فإنه في الأولى يجد نفسه في معركة ضد وحش بيروقراطي ضخم، تدعمه أجهزة الدولة والقوانين وأدوات السلطة القمعية. في الأساطير الإغريقية يُعاقَب البطل لأنه تحدى إرادة الآلهة، أو ارتكب من الأفعال ما يناقض العرف السائد، لكن في أعمال كافكا ما يختبره المواطن العادي (حتى في عالمنا المعاصر اليوم)؛ هو الوحش البيروقراطي الهائل الذي لا غاية واضحة له يستطيع المواطن أن يحددها، ليتعامل معها.
فالبيروقراطية تصبح مثل آلة الغرض الوحيد من وجودها هو استمرارها في الدوران؛ لا تنتج شيئاً، والطاقة المستهلكة هي للحفاظ على دورانها.
وهذا ما حدث لمواطني الـ«ويند رش»؛ الأطفال الذين كانوا بصحبة آبائهم وأمهاتهم لم تكن لهم أوراق سفر، أو إثبات الشخصية (يسميها البعض بطاقة الهوية)، فكانت أعمارهم تتراوح بين بضعة أشهر والعاشرة من العمر. البعض مدون على «باسبورات» الأب، والآخر غير مدون. لكن قيد اسم كل طفل في بطاقة النزولlanding - cards (بطاقة دخول في بعض الموانئ والمطارات العربية)، وهي الإثبات الوحيد الذي تقتنع به البيروقراطية بأن الشخص هو نفسه الواقف أمامهم بشحمه ولحمه... ماذا حدث؟
قرر أحد تروس آلة بيروقراطية وزارة الداخلية منذ 9 سنوات إخلاء الأرفف في الأرشيف، لإتاحة مكان لوضع الجديد من سجلات وقود الآلة، فتخلصوا من الصناديق التي تحمل بطاقات فيها بطاقات أطفال جيل الـ«ويند رش». بجرة قلم في عام 2009 (وكانت حكومة عمال هي اليوم معارضة)، أحرقت البطاقات خلال عامي 2010 و2011 (وكانت حكومة محافظين، ووزيرة الداخلية وقتها هي رئيسة الحكومة اليوم)، وأصبح 57 ألف بريطاني «بدون».
المعارضة والحكومة يتبادلان الاتهامات: من المسؤول؟
أطفال الـ«ويند رش» وصلوا من مستعمرات بريطانية، فلم يخطر ببالهم إعادة التسجيل عند تغيير القانون 1971.
هناك سجلات المدارس التي تعلموا فيها، والمؤسسات التي عملوا فيها (معظمها حكومية، كالبلديات ومستشفيات وزارة الصحة)، ومصلحة الضرائب التي استقطعت الضرائب من دخولهم؟
البيروقراطية التي لا تعرف المنطق ليست مجرد وحش بمخالب يدين فقط، بل أخطبوط متعدد الأذرع؛ أقسام البيروقراطية لا يعترف بعضها ببعض.
موظف الهجرة والجنسية معذور؛ يخشى أن يتخذ مبادرة فردية بتشغيل عقله ليثبت من سجلات المدارس وأماكن العمل أن الشخص ليس «بدون»، وإنما مواطن بريطاني، فالبيروقراطية أيضاً لها مقصلة حادة، تفصل رزق الموظف عن جسده إذا ما ارتكب خطأ، ولا توجد «استمارة» في مصلحة الجنسية، أو حتى وزارة الداخلية كلها، لإدخال المعلومات الواقعية فيها.
النظام الديمقراطي لا يسمح لرئيس الحكومة، أو حتى الملكة نفسها، بإصدار قرار فردي باختراع هذه الاستمارة السحرية التي تحل مأزق كافكا لـ57 ألف مواطن «بدون»، لأن البيروقراطية نفسها خلقت هيكلاً يجعل المجتمع يعتمد عليها لتطبيق القوانين الديمقراطية.