هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

أميركا وروسيا والصين... مناكفة استراتيجية

يبدو أنه صدى التحالف الصيني - السوفياتي لحقبة خمسينات وستينات القرن الماضي عندما صرح وزير الدفاع الصيني الجديد وي فينغ خلال اجتماع في موسكو الشهر الحالي: «جاء الجانب الصيني ليظهر للجانب الأميركي عمق الروابط الوثيقة التي تربط بين الجيشين الصيني والروسي».
ولا يزال التحالف العسكري الكامل بين البلدين يحلق في آفاق المستقبل البعيد بطبيعة الحال، ومن اليسير وصف تصريحات الوزير الصيني بأنها ليست أكثر من السرديات البلاغية للاستهلاك الإعلامي. غير أن ذلك سيكون من قبيل الأخطاء الكبيرة، نظراً للسمة غير المستحبة التي ترافق السيد فينغ في عالم السياسة الراهن؛ ألا وهي حالة التناغم المتزايدة بين خصوم الولايات المتحدة على الصعيد الجيوسياسي.
ولا يعد هذا التناغم جديدا علينا بحال؛ فلقد برزت حالات التعاون بين الدول المارقة وخصوم الولايات المتحدة أمثال كوريا الشمالية وسوريا وإيران بشأن مختلف القضايا من مبيعات الأسلحة وحتى الانتشار النووي عبر السنين. والأمر المتغير في الآونة الأخيرة هو ذلك التعاون الجديد والمتزايد بين كبار منافسي الولايات المتحدة، مع تعدد التهديدات التي تواجه النظام الدولي الحالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
ولنبدأ بروسيا والصين. مع تكثيف الجهود البينية لدى هاتين الدولتين لتأكيد نفوذهما الجيوسياسي، الأمر الذي دفعهما إلى اعتماد عدد من القضايا المشتركة على عدة أصعدة. حيث وفرت الصين الغطاء الدبلوماسي إلى روسيا في مجلس الأمن في أعقاب الضم الروسي لشبه جزيرة القرم في عام 2014. رغم تردد بكين التقليدي في دعم الحركات الانفصالية خشية تشجيع مثل هذه القوى لدولة تايوان.
كما عملت كل من موسكو وبكين معاً لمنع دعم الأمم المتحدة للتدخل ضد نظام بشار الأسد في سوريا، ولمعارضة المزيد من الانتشار العسكري الأميركي في شبه الجزيرة الكورية، مع السعي في الوقت نفسه إلى توثيق العلاقات الثنائية فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة، وصفقات الطاقة، وتطوير التكنولوجيا العسكرية.
ومن الأمور الواضحة للغاية أن البلدين قاما بإجراء المناورات البحرية المشتركة في بحر الصين الجنوبي، وبحر البلطيق، وبحر اليابان، أي المناطق التي تتجلى فيها التوترات الكبيرة بين كل من بكين وموسكو في مواجهة واشنطن بصورة خاصة. ويبدو أن التعاون بين موسكو بكين صار أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى منذ الانقسام الشهير بين ماو وخروشوف قبل أكثر من خمسين عاما.
ولا يعد هذا التعاون بين خصمي الولايات المتحدة هو الوحيد الذي يجري في الآونة الراهنة. فهناك حالة من التنافس الجيوسياسي تجمع بين روسيا وإيران منذ أمد بعيد، ولكنهما تعملان الآن جنبا إلى جنب بغية تقويض النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط.
ولقد شكلت طهران وموسكو ما يُعرف بتحالف الوضع الراهن العسكري لضمان بقاء بشار الأسد في السلطة – وبالتالي المحافظة على نفوذهما في المنطقة، أو ربما زيادته – مع توفير الجانب الروسي للقوة الجوية وتوفير إيران (عبر الميليشيات العملية الخاضعة لسيطرة طهران) لقوات المواجهة البرية. وزادت وتيرة التنسيق بين المسؤولين الروس والإيرانيين ليس فقط في ميادين القتال وإنما في أعلى مستويات الحكومة لدى البلدين. وقال المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أواخر عام 2017: «إن تعاوننا يمكنه أن يعزل أميركا». وفي الشهر الماضي، ذكرت وكالة بلومبيرغ الإخبارية أن نظام (إس إيه - 20سي) للدفاع الجوي الروسي الذي حصلت إيران عليه قد دخل حيز التشغيل الفعلي، الأمر الذي يمنح طهران ما وصفه مسؤولو الاستخبارات الأميركية بأنه «تحسين كبير في القدرات الدفاعية».
تعد هذه التحالفات جديرة بالملاحظة لحقيقة مفادها أن منافسي الولايات المتحدة لا يعتبرون، بأي حال من الأحوال، من الشركاء الطبيعيين. فلا تزال هناك حالة من التنافس المستمر بين روسيا والصين على النفوذ في آسيا الوسطى وغيرها من الأماكن؛ ومن شأن تعاظم القوة الصينية في هذه المنطقة أن يتحول في خاتمة المطاف إلى تهديد مباشر وكبير إلى روسيا – وهي الدولة التي تجمعها الحدود البرية الطويلة مع الصين – كما تفعل مع أي دولة أخرى. كما يمكن التوقع بحدوث بعض التوترات التي لا محيد عنها مع إيران، والتي تحاول أن تحتل وضعية القوة المهيمنة في منطقة الشرق الأوسط، ومع روسيا التي تلقي بالمزيد من ثقلها السياسي والعسكري حول نفس المنطقة.
ولكن، إن صح توصيف التعاون بين منافسي الولايات المتحدة بأنه انتهازي أكثر منه منهجي، فمن المثير للدهشة أن هذه البلدان تجد المزيد تلو المزيد من المناسبات التي يصب التعاون المشترك فيما بينها في خدمة مصالحها.
ويحدث هذا الأمر لسببين اثنين: أحدهما جيوسياسي والآخر آيديولوجي. والسبب الجيوسياسي يدور حول أن التيمة المشتركة التي تجمع بين روسيا والصين وإيران هي محاولتها المستميتة لإضعاف، بأسلوبها الخاص ولأغراضها الخاصة، النظام الدولي القائم على الهيمنة الأميركية وحلفائها وشركائها. ومع اعتبار المخاطر الكامنة والصعوبات الملازمة للاستيلاء على القوة القيادية والتحالف الاستراتيجي الضخم المرافق لها، فإن الثلاثي الدولي المذكور ينجذب بشكل طبيعي إلى الدول التي تتفق معه في معاداة ذلك النظام الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، وربما تساعد في اجتزاء أو التغلب على أطرافه البعيدة.
وقد يكون صحيحاً أنه على المدى البعيد، سوف يكون لدى روسيا ما تخشاه بالفعل من الصعود العدائي الصيني بأكثر مما تخشاه الآن من أوروبا الديمقراطية المتدهورة. لكن، وعلى المستقبل المنظور، تشترك كافة القوى الرجعية في حالة العداء الاستراتيجي المشترك.
أما السبب الآيديولوجي فيشير إلى أن هذه الدول تشترك في الالتزام بالحكم غير الليبرالي في العصر الليبرالي بصورة من الصور. ومن المسلم به، أننا لم نرجع إلى الوراء حتى حقبة الخمسينات، عندما كان الصراع الآيديولوجي بين واشنطن وموسكو يتخذ أبعاداً عالمية. كما لم تعد النزعة الماركسية - اللينينية تشكل جوهر العلاقة بين موسكو وبكين، كما كان الحال في عهد ستالين وماو. لكن روسيا والصين وإيران تعتمد كلها أنظمة حكم استبدادية (وفق الرؤية الغربية)، وترى أنفسها تناضل من أجل النفوذ وربما البقاء في العالم الذي تقوده القوى والقيم الديمقراطية الواضحة والبارزة. ومن ثم، فإن المقاومة الاستراتيجية والآيديولوجية لا تنفصم عراها بحال.

- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»