خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الكهرباء تدخل المدينة

«اللمبجي» من الألقاب الحرفية التي شاعت قبل قرن في الشرق الأوسط. ويشير إلى صناعة «اللمبة» (المصباح النفطي). وكان الطلب عليها محدوداً، فما فائدة اللمبة لشعب أكثره أميون؟ وربما كان ذلك سبب الفقر الذي عاشه زميلي الرسام فخري اللمبجي. كان والده يقوت أسرته من صنع اللمبات والفوانيس وبيعها من دكانه المتواضع في سوق الغزل من بغداد.
ازدادت العائلة فقراً بدخول الكهرباء وانخفاض الطلب على الفوانيس. بدأت شركة الكهرباء بمد الأسلاك وأسرع الأولاد لتحذير والدهم: «بابا شوف لك صنعة ثانية». سألهم أبو فخري عن هذا الشيء الدخيل الذي يسمونه الكهرباء، فشرحوه له حسب فهمهم بأنه شرارة يقدحونها في معامل الشالجية وتمشي تركض عبر الأسلاك وتضيء بيت كل من يدفع خمس روبيات في الشهر للشركة. أجابهم الوالد وقال: «روحوا اشتروا بعقلكم حلاوة. أكو شرارة تمشي على الأسلاك»؟
واصل عمله في صنع المزيد من اللمبات بجد ونشاط في حين واصلت الشركة نصب الأعمدة والمحولات ومد الأسلاك حتى وصلت إلى الشورجة، وتقدمت نحو سوق الغزل. حدثوه وقالوا: «بابا الكهرباء وصلت السوق وحمدي العلوجي أدخل الكهرباء في بيته. بس تعال وشوف وعاين». رفض الذهاب والمعاينة. قال: «هذا أبو حسن عقله صغير ويسمع كلام مرته. يومين وتخرب لمبة الشركة ويقعدون بالظلمة ويجون يتوسلون على فانوس».
أخيراً توقف أبو فخري عن الصلاة في مسجد سوق الغزل بعد أن سمع أنهم أضاؤوه بالكهرباء. توقف عن الخروج ليلاً ويرى الأزقة مضاءة بالكهرباء. وبعد أن أوصلوا الكهرباء لكل الدكاكين والدور المجاورة أذعن لضغط العائلة واستدعى الشركة لمد بيته أيضاً. جاء العمال وثقبوا الجدران ومدوا الماسورات وأوصلوا الأسلاك وربطوا البيت بالشبكة العامة.
نعم. دخلت الكهرباء بيت صانع اللمبات. نادوا على أبيهم ليحضر ويرى. أشاروا للكرات الزجاجية المعلقة من السقف. عاينها وتساءل: «يعني كيف هذي راح تشتغل من دون نفط؟»... أشاروا للأزرار المركبة على الجدار: «تكبس هذا الزر فتنير البيت كله واضغط على ذاك الزر فتنير المطبخ».
مشى العم أبو فخري نحو أحدها غير مصدق ما سمع. مد يده المرتجفة إلى الزر بتردد وقلق وإذا بالبيت كله يتحول من ليل إلى نهار. التفت لابنه مكسوفاً وقال: «ابني فخري روح اقفل الدكان وجيب المفاتيح». ذهب فخري وعاد وسلم المفتاح للوالد. وبقدر ما أعلم، وضع المفتاح في جيبه وتركه هناك ولم يستعمله ولو مرة واحدة لفتح الدكان. بقي المفتاح في الجيب وبقي الدكان مغلقاً بكل ما فيه من أدوات ولمبات. توفي الرجل بعد سنوات وسار فخري وكل القوم وراء الجنازة، ولكن مدير الشركة لم يكن بينهم.