إميل أمين
كاتب مصري
TT

مدن الشمس... طريق عالم المستقبل

تذكر لنا كتب التاريخ حكايات وقصصاً عن علاقة الإنسان بالطاقة الشمسية منذ بواكير العصور ومنها ما جرى عام 212 ق.م حين استطاع العلامة اليوناني أرشميدس حرق الأسطول الروماني المقبل من بعيد لملاقاة جيش بلاده وذلك عن طريق تركيز الإشعاع الشمسي على السفن المعادية بواسطة المئات من الدروع المعدنية، ورغم أن القصة يدور من حولها جدل واسع فإنها بحال أو بآخر تشير إلى القوة الهائلة للطاقة المدمرة أو المعمرة التي يمكن الحصول عليها من الشمس.
لماذا الآن نتذكر حديث مدن الشمس؟
الجواب يتصل بركن جديد من أركان الزيارة الناجحة والخلاقة للأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي إلى الولايات المتحدة، حيث وقع قبل نحو يومين اتفاقاً تاريخياً مع رئيس مجلس إدارة صندوق «سوفت بنك» لإنشاء أكبر مشروع للاستفادة من الطاقة الشمسية في العالم لتوليد ما بين 150 غيغاوات و200 غيغاوات بحلول عام 2030.
الحديث عن هذا المشروع يفيد بأكثر من إفادة في مقدمتها أن الأمير محمد له دالة معمقة على قراءة التاريخ والاستفادة من دروسه؛ ذلك أن مدن الشمس التي يسعى في أثرها عبر هذا المشروع الكبير وجدت من قبل على الأرض في أطر حضارية وتاريخية لا تخطئها العين، فقد أطلق السوريون القدامى على مدينة بعلبك اسم «مدينة الشمس» فيما مدينة صور بلبنان استأثرت بهذا اللقب، وفي مصر الفرعونية أقام المصريون مدينة الشمس أو مدينة «أون» شرق العاصمة القاهرة.
على أن مسألة الطاقة الشمسية اليوم لم تعد رفاهية تاريخية، بل واقع حي معاصر تدفع في طريقها دفعاً أحوال الطاقة التقليدية وجلها قابل للنفاد كالنفط والغاز مما يجعل الحفاظ على كل قطرة من بترول العرب وكل قدم مكعب من الغاز في أراضيهم مهمة «شبه مقدسة» تهدف إلى توفير كنز الطاقة الثمين وسائل الحضارة دون تهويل من أجل الأجيال المقبلة.
توقيع الاتفاقية الأخيرة يؤكد أن ولي العهد السعودي يدرك آليات وأبعاد اقتصاد الابتكار ذاك الذي يتجاوز طرح اقتصادات «الريع» التقليدية ويؤمن أن الشمس هي الطاقة السحرية للمملكة للدخول إلى القرن الواحد والعشرين بأريحية غير مسبوقة في مجال حيازة طاقة نظيفة وجبارة، سيما أن بلاده تعد أكثر الأماكن عالمياً توافراً على معدلات الإشعاع الشمسي وبغطاء سحب منخفض لا يزيد على 20 في المائة على مدار العام.
مشروع الطاقة الشمسية للمملكة يعني في تحليله وتفكيكه ثورة اقتصادية وبيئية خلاقة، فقبل بضعة أعوام صدرت قراءات علمية كثيرة بعضها لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا) تتحدث عن إشكاليات ارتفاع درجة حرارة منطقة الخليج العربي لأكثر من سبعين درجة مئوية خلال العقود الثلاثة المقبلة. ومما لا شك فيه أن الصناعات النفطية المباشرة والعوادم والمحروقات تزيد من التبعات السلبية لتلك القراءات، ومن هنا تبدو الطاقة الشمسية النظيفة مهرباً ومسرباً من أحوال المناخ العالمي القاتل وفرصة لتحسين شكل الحياة في تلك الرقعة الجغرافية والإنسانية تاريخياً وذات الأهمية الفائقة لأكثر من مليار ونصف المليار مسلم حول العالم.
يمكن للمرء أيضاً الإشارة إلى أن مثل هذا المشروع العملاق سيضمن نشوء وارتقاء الكثير جداً من الصناعات المكملة من حوله، وفي مقدمتها صناعة ألواح شمسية متطورة وأنظمة لتخزين الطاقة الشمسية، وبجانب ذلك وربما هو الأهم الذي سينعكس برداً وسلاماً على الأجيال السعودية المقبلة هو تطوير مراكز أبحاث علمية تكون حاضنة لأفكار الإبداع العلمي على أراضي المملكة، مما يضمن لاحقاً طرقاً ووسائل جديدة للتعاطي مع العالم الخارجي اقتصادياً وعلمياً، اجتماعياً وثقافياً، وحتى لا تظل حالة الدونية الثقافية والعلمية على الأقل تطاردنا كعرب في الصحو والمنام.
يضمن مشروع «الطاقة الشمسية» الذي يقف وراءه بعقل وعدل الأمير محمد بن سلمان دوراً رائداً متجدداً لبلاده على صعيد إمدادات النفط العالمية في أسواق متعطشة دائماً وأبداً للمزيد منه، وبخاصة في ظل حالة الاحتدام والمواجهة الدولية مؤخراً والتي تذكر العالم بما جرى إبان عقود الحرب الباردة في القرن الماضي.
فيما الإفادة المباشرة تتجلى في توفير مائة ألف فرصة عمل على الأقل، مما يعني زيادة الناتج المحلي الإجمالي السعودي بمليارات الدولارات عاما تلو الآخر.
يحق لسكان المملكة اليوم المفاخرة بقيادة وريادة تضع العلم في خدمتهم وتسعى لجعل «الميثولوجيا العتيقة» واقعاً حياً معيشاً تصبح فيه الطاقة الشمسية مصدر دخل عالياً وغالي القيمة يضاف حتماً لمداخيل الدولة الأخرى ويعزز خطواتها في عالم لا يقيم وزناً إلا للعلم والمال.. ومن جهة ثانية مدخلاً لمدن تخط ملامحها من خيوط الشمس نتصورها في عالم المستقبل القريب نموذجاً يحتذى نراه متجلياً في المدن كبيرها وصغيرها يربط بينها نظام طاقة مستدامة، نظيفة، متجددة، صديقة للبيئة المحيطة بها.
أبدع وأروع ما في مشروع الأمير محمد بن سلمان للطاقة الشمسية هو التحدي والتصدي لقوى الطبيعة الصماء وتسخيرها لخدمة الإنسان، إنها ثورة عقول متسامحة ومتصالحة، وقد باتت الطبيعة بدورها شريكاً فاعلاً فيها ثورة نماء وبناء لا هدم وفناء، ثورة تتجاوز الآيديولوجيات المتشددة والتي لم تولد إلا الجهل والرجعية ولم ينشأ عنها سوى الفقر والمعاناة... الإنسان هو القضية... الإنسان هو الحل.