فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

معرض الكتاب... سجالات الحرية والحق

منذ عقد ونصف ومعرض الرياض للكتاب يعكس أحدث الظواهر المجتمعية، ويحرّك أسخن السجالات بين التيارات ويفجّر الصرَعات الفكرية والإعلامية والاجتماعية. والنقاش في السعودية طابعه ثقافي، ذلك أن الأفق السياسي محسومٌ من خلال تفويض مطلق للأسرة الحاكمة التي حظيت طوال ثلاثمائة سنة بشعبية جارفة، وقبول تام، مما مكّن المجتمع من تجاوز الثرثرة السياسية التي تنشغل بها دول عربية لم تتقدم تنموياً ولا هي تغيّرت سياسياً؛ بل بقيت في حالٍ من التقهقر والضياع. والنقاش بالسعودية أفقه دائماً ثقافي، ومهما كانت مستويات حدة الصراع بين التيارات، فإنها أثمرت تحوّلات قويّة أنضجت من الطروحات والمناظرات والحوارات. ومعرض الرياض للكتاب ليس مجرد مظاهرة بيع للكتاب، بل يأخذ منحى أكبر؛ فهو مسرح سنوي لعرض أبرز الظواهر محل الاختلاف، وأقوى المسائل التي تشكّل موطناً للصراع، فعلى سبيل المثال شهدت فعاليات المعرض المصاحبة له نقاشات حول عمل المرأة وقيادتها السيارة، وتم التشويش على ندوات فكرية وأدبية من قبل مجموعة من المحتسبين، وهذه القصص تبين مستوى التطوّر والتحول المجتمعي.
والمعرض أيضاً مرآة لنا، يكشف الظواهر المختبئة بالمجتمع، فهو ناشر وفاضح، وقد شهدت دوراته المتتالية ألواناً من الاشتباكات، كل ذلك يعبر عن الأزمة التي يعيشها المجتمع بغية الخروج من التخلف وصيغ الظلام، وثمة من يجرّون المجتمع إلى الخلف خائفين عليه من التجارب التنموية والفكرية الغربية. وإذا كانت القصص موضع الاختلاف في السنين الماضية تمحورت حول الإرهاب ومسائل الصحوة الإسلامية وعثراتها، والمرأة وحدود حضورها، والكتاب الفكري ومجالات نقده، فإن المعرض المنعقد حالياً يشهد نوعاً آخر من السجال؛ إذ تمكنت «الظاهرة السوشلية» من الوصول إلى معرض الكتاب وبقوّة لتغزو هذا الصرح بعد أن دخلت كل المجالات الإعلامية والإعلانية والمسرحية والاجتماعية... تم احتلال الواقع من قبل «الظاهرة السوشلية» حتى فرضت نقاشاً حاداً حول معايير التأليف وذلك بعد طرح نجم «سوشلي» كتابه في الأسواق، وطبع منه 10 آلاف نسخة، وأساس النقاش وجوهره يتعلق بحدود الحرية في التأليف، وهل يمكن اعتبار هذه المؤلفات التي تقوم بتفريغ التغريدات، أو نسج الحكايا، مما يحق لدار النشر طباعته؟!
لطالما كان تأليف الكتب عملاً تعده النخبة ذروة النضج، فالتأليف غالباً خلاصة تجربة علمية أو حياتية أو إدارية عميقة، يوثقها الإنسان بحثاً عن الخلود، فالكتابة سباق مع الزمن، وتأليف الكتاب احتجاج على قِصر العمر، مما يجعل الكتاب أخلد من صاحبه، ولطالما صاغ المؤلفون على طرّة كتبهم ما يوحي برغبة جامحة في أن يطول الأجل لإتمام العمل، يصحّ ذلك على كتبة المطولات خاصة، ومن هنا يكون الكتاب عمراً ثانياً للإنسان، وتأتي الكتابة منقذة للإنسان من قصر حياته فتجعله أكثر قدرة على البقاء والحضور ولو لعقودٍ من السنين بعد الرحيل، فالتأليف وشم في الواقع، به تتأبد التجربة ويتجدد الحضور.
غير أن رأياً آخر يعد التأليف يشبه كتابة تغريدة، أو صياغة قصيدة، أو رسم لوحة، أو طرح شريط، ويعد الثورة على كتب «الظاهرة السوشلية» ضرباً من التقديس للكتاب، ويعد ذلك مرضاً نخبوياً، فالكتاب لديهم مثل أي منتج آخر، يطرح ثم ينفد من الأسواق؛ ومن ثم ينقرض مع تحولات الاهتمام المجتمعي، ويعد أصحابه التأليف حقاً حتى للجهلة والمعاتيه؛ وذلك انطلاقاً من الحريّة الشخصية، والحقّ الذاتي، فلا إشكال لديهم مع تأليف أي إنسان أي كتاب مهما كانت قيمة المحتوى المطروح... هذه وجهة نظر طرحها كتّاب ومثقفون انتصاراً لكتب «الظاهرة السوشلية» ودفاعاً عن «حق التأليف» وليس عن جودة المحتوى.
يكشف هذان الرأيان مستويين من التناول؛ أولهما نخبوي «يقدّس الكتاب» ويعده نتيجة جهد علمي كبير، وتتويجاً لتجربة وجودية كبرى، والرأي الآخر «يقدّس الحرية» ويعد النخب المقدِّسة لعملية تأليف الكتاب متهالكة ومتآكلة ولا تعيش تطوّرات الاهتمامات الشبابية الجديدة... إنه صراع بين رأيين كل منهما يضع أولوية مختلفة تجاه موضوع المؤلفات «السوشلية».
من الواضح أن هناك موجة تتفيه لكل شيء؛ لم يقف الأمر على تأليف كتاب، بل ثمة استباحة شاملة للمجال المعرفي، والأمر أكبر وأخطر من «الظاهرة السوشلية» ومنتجاتها، فالجهل واحتقار المعرفة، والعزوف عن الكتاب، والاغتباط بالجهل وقع به من هم مظنّة التعلم والاستزادة؛ إما على شكل إضراب عن المعرفة، وإما من خلال التعالم والادعاء وابتسار المعرفة وتسطيح المقولات والنظريات، أو المغامرة والقفز للحديث عن مسائل تحتاج إلى جهد ذاتي كبير حتى يتخصص بها الإنسان؛ وأبرز مثال على ذلك انتشار حالات التحليل السياسي، وجرأة الادعاء بالمجال الثقافي... وعليه؛ فإن نجم «السوشال» موضع النقاش يأتي ضمن سياق عام من الصخب والجنون، وما أصدق القول القديم: «في آخر الزمان، يُعرج بالعقول».