خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الفرنسيون في متاهة

بعد أن أسقطت الثورة الفرنسية الحكم الملكي لآل بوربون عام 1789، دخل الفرنسيون في متاهة فكرية وسياسية. يحنون أحياناً للحكم الملكي - كما يفعل العراقيون في الآونة الأخيرة. سلموا في الأخير الحكم إلى لويس فيليب ملكاً عليهم ولكنهم سرعان ما ملوا من حكمه، فقرروا إجراء انتخابات عام 1848 لإعلان الجمهورية واختيار رئيس لها. وكان نابليون بونابرت قد استحوذ بخيالهم رغم كل ما جره حكمه من مآسٍ أحاقت بهم. وفي هذا الجو استغل لويس نابليون اسمه فطرحه للانتخابات. جمع اسمه بين نكهة الأسرة الملكية (لويس) والنكهة الإمبراطورية (نابليون). طرح اسمه وريثاً لمجد الإمبراطور. كان خائفاً من النتيجة فطمأنه شقيقه الدوق دوموتي قائلاً: «لا تقلق يا أخي، فسواء نجحت أم فشلت، فكن على ثقة من أنك غداً ستجد شرطياً حارساً أمام بابك!».
كان ما عناه هو أن لويس إذا نجح فسيقف الحارس أمام بابه لحراسة رئيس الجمهورية، وإذا فشل فسيقف الحارس شرطياً لمنعه من القيام بأي انقلاب ضد النظام الجديد.
نجح وانتقل للسكن في قصر الإليزيه. بيد أن أمانيه لم تكن محصورة بذلك. كان يطمح لإحياء مجد سلفه، نابليون، بتنصيب نفسه إمبراطوراً على فرنسا. فراح يكثر من الولائم والحفلات في قصره طمعاً في كسب رضا القوم عليه. وفي إحدى هذه الحفلات، انطلق ليراقص إحدى سيدات المجتمع البارزات، فتمتم أحد الحاضرين: «إنه يراقص الجمهورية بانتظار أن ينسفها». فشاعت الكلمة بين الجماهيرية الفرنسية، بل وفي عموم القارة الأوروبية.
تم ذلك بالفعل بعد أشهر قليلة في عام 1851 بإعلان الإمبراطورية الثانية وإعطائه لقب نابليون الثالث. لاحظت نسيبته، الدوقة أورتانوس أن نابليون الثالث هو تماماً غير نابليون الأول. فقالت له بخبث: «أنت ليس لك شيء من نابليون»، فأجابها قائلاً: «بل نعم فلي أسرته»، وأشار إليها.
كلا لم يفز نابليون الثالث بأي شيء من عبقريات سلفه. ولكنه كان رجلاً طيباً. ومن ذلك حبه وحنانه للحيوانات والأطفال. كان يتمشى في حدائق قصر التويلري فصادف صبياً يلعب الكرة وكان وسيماً وظريفاً بشعر ذهبي مجعد، فأخذه الإمبراطور بين يديه وقبله وراح يداعبه، ثم قال له: اسمع يا ولدي العزيز. قل لوالدك إن إمبراطور فرنسا يهديه تحيته. أجابه الصبي: «كلا لن أفعل ذلك. لن أجرؤ عليه. فوالدي يشتم الإمبراطور طوال الوقت»! فدهش نابليون الثالث وسأله: «أوه. وماذا يفعل والدك»؟، فأجابه: «والدي عضو في مجلس الشيوخ». تطوع أحد رجال الحاشية فقال للإمبراطور: «حسناً. فلنعرف اسم والد هذا الصبي ومن يكون؟»، فأجابه نابليون: كلا. فأنت تعرف أن البحث عن الأبوة ممنوع في فرنسا.
وكما في أي حكم سلطوي، يظل تفكير الحاكم منشغلاً بمن يمكن أن يشكل بديلاً عنه. في أقطارنا السلطوية العربية الثورية لتصفيته طبعاً.