عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

بريطانيا: الجاسوسية تلهب الصراع بين الحزبين الرئيسيين

رغم تباين النظم السياسة، وتعامل المجتمع مع الساسة وتعاملهم بعضهم مع بعض، تظل المشاعر الوطنية متشابهة تتطابق في كل المجتمعات، وإن اختلفت أساليب التعبير عنها.
السياسي الداهية الراحل السير ونستون تشرشيل نصح بعدم فهم أولويات التعامل مع خصوم خارجيين بقوله «الناس في أي مكان، يحبون وطنهم، ببساطة، لأنه الوطن والأرض التي يعيشون عليها» أي أنها بديهية لا تحتاج إلى براهين أو تحليل فلسفي للعلوم السياسية.
بديهية يبدو أنها فاتت زعيم المعارضة البريطانية قبل أن يفتح على نفسه باب تسونامي من الاتهامات.
مضمون بعض ما طرحه جيرمي كوربين، زعيم حزب العمال في رده على رئيسة الحكومة في مجلس العموم، الأربعاء، وكرره بتفاصيل أوسع في «الغارديان» (منبر نخبة اليسار البريطاني)، وجيه ويستحق أخذه في الاعتبار.
وجّه كوربين نصائح بشأن اتهام الحكومة الروس بتدبير محاولة اغتيال الجاسوس السابق سيرجي سكريبال وابنته في مدينة ساليزبري بجنوب إنجلترا.
سكريبال، الكولونيل السابق في المخابرات العسكرية الروسية، حكم عليه بالسجن في محكمة روسية بصفته جاسوسا للمخابرات البريطانية، وبعد عدة سنوات أفرج عنه في تبادل للجواسيس المسجونين بين الغرب والشرق.
نصح الزعيم العمالي بالتريث والتصرف بعقل وأعصاب باردين، وأيضا الإسراع بتقديم عينة من سم غاز الأعصاب إلى جهات محايدة مثل الوكالة الدولية للتخلص من الأسلحة الكيماوية لمعرفة نوع سم الأعصاب ومصدره، وبالطبع أدلة لمعرفة الفاعل الحقيقي وشبكة اتصالاته وعلاقاته.
«الأدلة» التي قدمتها الحكومة للبرلمان، وفي متناول الباحثين علنا، حتى ساعة كتابة هذه السطور، أدلة ظرفية ومعظمها يرتكز على سوء سمعة «المتهم».
في تقاليد العدالة هنا، نوع الأدلة هذه لا يقنع قضاة المحاكم الإنجليزية، وأغلب الظن أن مكتب ادعاء التاج (المقابل للنائب العام أو المدعي العام في البلدان العربية) لن يغامر بالاعتماد عليه لتوجيه الاتهام، ويكلف المحامون أنفسهم إعداد الترافع في قضية خاسرة.
باستثناء بقايا غاز الأعصاب السام، لا وجود (علنيا) لأدلة مادية كبصمات مشتبه به أو حامضه النووي أو صوره على كاميرات المراقبة المنتشرة في الشوارع أو شهود عيان للتعرف عليه؛ الأدلة التي تأخذ بها المحاكم الإنجليزية، وبغيرها تضعف قضية الادعاء، حتى ولو قدم اعترافا بخط يد المتهم. الدافع واستفادة المتهم جزء مهم من ملف الادعاء، وهي مسألة محيرة.
الروس، وبالتحديد زعيمهم فلاديمير بوتين في قفص اتهام الرأي العام البريطاني والدبلوماسية العالمية، فما الفائدة التي تعود عليه من محاولة الاغتيال؟
كان يمكن أن ينتظر لما بعد مباريات كأس العالم، بدلا من المقامرة بمقاطعة العالم لها.
في مسرح الاستراتيجة السياسة الدولية نجحت مناورة بوتين، في إحراج الغرب في سوريا، وجذب لفلكه عضو حلف الناتو تركيا، ولا منافس له في انتخابات الرئاسة الروسية، أي أنه متفوق في الرأي العام قوميا وعالميا، ولذا يصعب على محقق إيجاد دافع التهمة وفائدة تعود على المتهم.
ما دفع المراقبين والرأي العام إلى تصديق رواية الحكومة هو سوابق المخابرات الروسية، المدرسة التي تعلم فيها بوتين لعبة السياسة، التي جعلت منه مشتبها به في كل جريمة أو اعتداء يتعرض له منشق روسي أو جاسوس سابق. هناك تاريخ من اغتيالات خصوم موسكو وأعداء الرئيس بوتين، لعل أشهرها في العقل الجماعي البريطاني اغتيال العميل السابق ألكسندر ليفنينكو في لندن بمادة البولونيوم المشعة قبل عشر سنوات، فعلقت حجر الاشتباه المسبق حول رقبة الكرملين في جرائم مستقبلية.
لكن ملف مخابرات توني بلير حول أسلحة الدمار الشامل كمبرر لغزو العراق بدوره حجر ذنب أكثر ثقلا معلقا في رقبة أي حكومة ويعرقلها عن العمل الحاسم دوليا.
هناك ميثاق «شرف» بين أجهزة المخابرات. العملاء المفرج عنهم في تبادل الجواسيس بين الشرق والغرب يبقون في أرض الحياد، لا يستهدفون بالاغتيال، أي عفو عنهم. أما استهداف أفراد أسرة العميل فمن المحرمات المقدسة.
زعيم المعارضة يعي هذه التفاصيل، التي تتجاهلها الـ«بي بي سي» وصناع الرأي العام في حالة مزاج هستيري معاد لروسيا.
لكن فات زعيم المعارضة وضع حالة الهستيريا العاطفية (الغريبة شيئا ما على الشخصية البريطانية) في اعتباره في صياغته لمداخلاته في مجلس العموم.
التقليد البرلماني في الأمور الطارئة أن تقدم الحكومة بيانا وزاريا لمجلس العموم أو اتخاذ قرار لم يدرسه مجلس العموم مسبقا، ويرد على مقدم البيان نظيره في حكومة الظل، ويناقش الأمر في فترة «البيان الوزاري» للجلسة.
وهناك اتفاق جرى عليه العرف، وهو أنه في الأزمات القومية مع أي خصم خارجي، تتحد صفوف المعارضة مع الحكومة، ولا تحاول إحراز نقاط حزبية أو التشكيك في موقف الحكومة.
ورغم ضرورة الأسئلة التي طرحها زعيم المعارضة، فقد خانه التوفيق في الصياغة وفي التوقيت.
حاول إحراز نقاط حزبية، مما جعله يبدو متراخيا في دعمه لبلاده ومدافعا عن روسيا في وقت اهتز فيه الرأي العام لجريمة في شوارع بريطانيا، والناس قلقون من وجود مواد مميتة في المدينة المحيطة بالحادث.
أثار المستر كوربين إنقاص الحكومة ميزانية وزارة الخارجية، ونقص الكفاءات الدبلوماسية بدلا من تذكير النواب بأن القدرات الدفاعية للمملكة تحت حكم المحافظين بلغت أدنى مستوى لها في ثلاثين عاما.
الأمر طرحه نائب من مقاعد الحكومة، رغم أن الحكومة العمالية السابقة (1997 - 2010) تفتخر بتاريخها القوي في مجال الدفاع، ودعم الجيش.
تنافس نواب العمال من التيار البليري في توجيه الطعنات لظهر زعيمهم جيرمي كوربين وانحازوا للحكومة في مجلس العموم. والسؤال المتردد في أروقة قصر وستمنستر، هل يستغل نواب التيار البليري هجوم الصحافة على كوربين والتشكيك في وطنيته في محاولة ثالثة لانقلاب حزبي برلماني للتخلص من زعيمهم؟
حاول البليريون مرتين الإطاحة بجيرمي كوربين وفشلوا. آخرها سحب الثقة منه قبل 14 شهرا، عندما لم يصوت لصالحه سوى 40 نائبا عماليا و174 نائبا ضده، وانتهت المحاولة إلى لا شيء وأعيد انتخابه بأغلبية أكبر.
كما يصعب عليهم إيجاد مرشح منافس أقوى منه. فقدرة نواب مجلس العموم ونواب البرلمان الأوروبي العماليين على ترشيح نائب لزعامة الحزب تناقصت من 20 في المائة إلى 10 في المائة فقط و90 في المائة مقسمة بين المجلس التنفيذي القومي، والاتحادات النقابية، وقواعد الحزب، وأكثر من ثلثي الكتلتين مؤيدون لزعامته.
وعمليا، لا توجد فرصة للتيار البليري لترتيب انقلاب ناجح لاستبدال زعامة كوربين في المستقبل القريب. ربما عندما تتضح الصفقة النهائية مع الاتحاد الأوروبي بعد عام، ويتخذ كوربين موقفا مخالفا لمصالح القواعد الشعبية للحزب.