ليونيد بيرشيدسكي
TT

قواعد لعبة التجسس لم تعد واضحة

تتزايد الآمال في اقتراب المحققين البريطانيين من التعرف على السر وراء تسمم الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته داخل المملكة المتحدة.
مع هذا، فإنه من الطبيعي أن نجد أن النظرية السائدة عبر وسائل الإعلام داخل المملكة المتحدة في الوقت الراهن تدور حول تورط جواسيس روس في تسميم العقيد السابق بالاستخبارات العسكرية وابنته، يوليا. والمؤكد أنه إذا صح هذا الأمر، فإنه لن يشكل مفاجأة لأحد، ذلك أنه يعني ببساطة أن الاستخبارات الروسية عاودت سياسة إعدام الخونة التي انتهجتها منذ قضية ألكسندر ليتفينينكو، الذي تعرض للتسميم بالبولونيوم عام 2006. وإذا ما ثبت أن سكريبال يشكل حلقة جديدة من هذه السياسة، فإن ثمة ملحوظتين لافتتين تبرزان في المشهد وتوحيان بتخلي روسيا عن قواعد لعبة التجسس غير المكتوبة، التي استفادت منها هي ذاتها مراراً: أولاً: أن سكريبال كان فعلياً خارج نطاق أي عمل على صلة بالتجسس بعدما خضع للمحاكمة وأدين، ثم جرى نقله إلى المملكة المتحدة. ثانياً: من الواضح أن ابنته تعرضت إلى الاستهداف بجانبه.
جدير بالذكر، أنه عام 2010، كان العقيد السابق واحداً من أربعة أفراد انتقلوا إلى الغرب في إطار عملية مقايضة جواسيس. وفي إطار المقايضة، أفرجت الولايات المتحدة عن 10 «جواسيس نائمين» من الروس. بصورة عامة، جرت على الأقل 12 عملية مقايضة للجواسيس بين دول غربية والاتحاد السوفياتي والدول الصغيرة الخاضعة لهيمنته أثناء «الحرب الباردة»، لكن كانت هذه أول عملية مقايضة يجري الإعلان عنها في ظل قيادة فلاديمير بوتين لروسيا.
ولم يتعرض أي من الأفراد الذين جرى تسليمهم إلى الغرب في إطار مثل هذه المقايضات إلى الاغتيال. وتعتبر إمكانية المقايضة واحدة من الميزات التي تشجع البعض على التجسس لحساب قوة أجنبية، ذلك أن الأموال التي يحصل عليها الجواسيس أو شعورهم بالرضا الأخلاقي لعملهم ضد نظام بغيض لا يكونان كافيين أبداً لتعويض المخاطرة المروعة التي ينطوي عليها هذا العمل، بل وحتى الوعد الضمني بأن يتولى الجانب الذي تعمل لحسابه رعايتك لن يفلح في تشجيع المرء إذا ما شعر بأنه سيقضي ما تبقى له من العمر في خوف وترقب دونما انقطاع. أما المقايضة فإنها تشكل ضماناً للحصول على تقاعد آمن. وإذا اختفى هذا الضمان، فإن ذلك يفاقم بصورة خطيرة المخاطر القائمة أمام الجواسيس ـ ويجعل عمليات المقايضة دون جدوى حقيقية.
والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا: بعد استئنافه سياسة المقايضات التي سادت حقبة الحرب الباردة، لماذا يقدّم بوتين أو كبار مسؤولي شؤون الاستخبارات ببلاده على الموافقة على اغتيال جاسوس سابق قضى جزءاً من عقوبته داخل سجن روسي، ثم جرى تسليمه إلى المملكة المتحدة ليقضي حياة التقاعد هناك؟ تتمثل إحدى الإجابات المحتملة في أنه ربما استمر سكريبال في العمل لصالح الاستخبارات البريطانية حتى بعد المقايضة. إلا أنه نظراً لأنه ليس بمقدور الحكومة الروسية الآن الكشف عن أي شيء دون إثارة مواجهة كبرى مع المملكة المتحدة، فإننا ربما لن نعرف أبداً حقيقة ما جرى. وبسبب ذلك، فإن القواعد غير المكتوبة لعمليات مقايضة الجواسيس ربما تبقي الشكوك محيطة بها فيما يتعلق بوكالات الاستخبارات الغربية.
إضافة إلى ذلك، تبقى مسألة ابنة سكريبال، يوليا، فلم يسبق قط أن تضمنت أي سياسات سوفياتية أو روسية مهاجمة أقارب الخونة. وحتى قضية نجل ليون تروتسكي، ليف سيدوف، التي وقعت عام 1938 تبقى بعيدة عن كونها عملية اغتيال واضحة بما لا يدع مجالاً للشك. كما أنه ليس ثمة حالة واحدة معروفة لوقوع «ضحايا غير مقصودين» في صفوف أقارب الخائنين. في الواقع، اتسم التوجه السوفياتي والروسي نحو الانتقام دوماً بالبراغماتية، وليس السعي الأعمى وراء الثأر. وبالنظر إلى كل ما سبق، فإن ثمة سبباً وجيهاً للتشكك في الاعتقاد السائد اليوم حيال القضية حتى تظهر حقائق ملموسة تدعمه.
بيد أن ذلك لن يمنع محللين مخضرمين من محاولة الوصول إلى نتائج أولية. من بين هؤلاء مارك غاليوتي، الباحث البارز لدى «معهد العلاقات الدولية في براغ» الذي يدرس مجتمع الاستخبارات الروسي. وفي أعقاب الحادث، خرج غاليوتي للعالم معلناً «انهيار الإتيكيت القديم للتجسس». كما أوضح أن «إف إس بي»، وكالة الاستخبارات الداخلية الروسية، نشطت على نحو متزايد بالخارج ـ وأنها من غير المحتمل أن تتقيد بالقواعد القديمة بالنظر لأنها لا تعترف بأي قواعد في الداخل. وبغض النظر عما إذا كان الهجوم قد أجيز من جانب الكرملين أو يعكس ثقافة جديدة على الصعيد الاستخباراتي، فإنه يبعث برسالة واضحة إلى الروس الذين يعملون، أو كانوا يعملون، لحساب وكالة استخبارات غربية مفادها أنه ليس ثمة ترتيب بمقدوره إضفاء شعور بالأمان على حياتهم.
بالتأكيد، هذه رسالة قوية، ويكمن الجانب السلبي فيها في أن أي شخص يعمل لحساب روسيا يمكن أن يتوقع هو الآخر تعرضه في أي لحظة لوضع سم في شرابه أو تعرض أفراد أسرته لهجوم ـ فهل يمكن أن يخاطر الكرملين بالإقدام على خلق هذا الوضع الانتقامي ـ والرد شبه الحتمي من قبل المملكة المتحدة ـ فقط من أجل التخلص من جاسوس متقاعد؟ إذا كانت الإجابة بالنفي، فإن على الكرملين الابتهال للسماء كي يظهر تفسير بديل بسرعة، وإذا ما كانت ثمة عناصر مارقة متورطة في الهجوم، فإنه يتعين عليه الإسراع إلى معاقبتها.
على الجانب الآخر، تبقى احتمالية أن تكون الإجابة بنعم، وذلك للأسباب ذاتها التي دفعت بوتين في الفترة الأخيرة إلى تكريس خطاب مهم لتهديد الولايات المتحدة بمجموعة جديدة من الأسلحة النووية الفائقة. ويتمثل هدف بوتين المعلن في أن يصل صوته إلى الغرب، وأن يجبره على الدخول في مفاوضات بخصوص قضايا أمنية. وربما يكون إظهار التخلي عن قواعد عالم التجسس التي سادت حقبة الحرب الباردة أحد السبل التي يسعى بوتين من خلالها لإجبار الغرب على الجلوس والحديث معه. وفي المواقف التي كان بها ثمة هدف أكبر يلوح في الأفق، لم يسبق لروسيا تحت قيادة بوتين أو سابقيه أن ترددت إزاء المخاطرة بأرواح حتى المخلصين لها.
إلا أنه مثلما الحال مع التهديدات النووية، فإن مثل هذه الإجراءات الداعمة لفكرة العشوائية من المحتمل أن تؤتي بنتائج عكس المرجوة. الواقع أن مشكلة بوتين ليست في أنه لا يطلق تهديدات كافية ـ الحقيقة أن تهديداته كافية تماماً، وإنما في أن استعداد الكرملين وعملائه على خرق أي قواعد متعارف عليها يعزز الانطباع بأن نظام الكرملين غير جدير بالاعتماد عليه، ويجعل من مسألة عقد محادثات معه أمراً لا طائل من ورائه.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»