خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الشعراء بين الترف والشظف

عندما أنظر للترف الذي يعيشه الآن بعض الشعراء وعلى الخصوص مشاهير المداحين منهم في هذه الأيام، أتذكر الفقر وشظف العيش الذي عاشه شعراء الأمس. وأول من يرد إلى ذهني من شعراء العراق معروف الرصافي الذي كنت أراه وأنا صبي صغير يقضي وقته لابساً الغترة والعقال، جالساً على حافة الطريق في الأعظمية، لا يدري من أين سيأتيه عشاء اليوم. فبالضبط كان كثيراً ما يتوقف طعامه على ما يجود به الكرام من الجيران والأصحاب المعجبين.
بيد أن نوري السعيد، رئيس الوزراء كان يقدر الشعراء والأدباء ويفسح لهم المجال في إطار الديمقراطية الناشئة. وما تيسر من حرية الفكر في تلك الأيام، أيام الخير، فتركه وشأنه حراً في معيشته، بل وكثيراً ما مده بالمساعدات خفية وتستراً. كان يعرف أن الرصافي الأبي، إذا سمع بمصدر المساعدة، أي أنها من الحكومة فسيرفض تسلمها. حار أبو صباح في أمره حتى خطرت له فكرة.
كانت السجائر شحيحة في تلك الأيام، أيام الحرب العالمية الثانية. واعتادت مديرية انحصار التبغ العامة على توزيعها بالتقنين. ويظهر أن مدير المؤسسة كان من عشاق شعر الرصافي. فأوعز له نوري السعيد بأن يخصص حصة سخية لا بأس بها من علب السجائر المقننة لهذا الشاعر الكبير، الذي سارع بدوره إلى بيعها في السوق السوداء ليقتات من فرق السعر دون أن يعرف شيئا عن دور رئيس الوزراء في الأمر. وهكذا يمكن القول إن الرصافي عاش على الاتجار في السوق السوداء. وكنا جميعاً نعتبر ذلك أهون بكثير من المتاجرة بالوطنية التي أصبحت مع الأسف شائعة في هذه الأيام. فالأمور انقلبت بالمعكوس كما نعرف.
ومع ذلك، فإن ما كان يكسبه من بيع السجائر لم يكن كافياً حتى لسد إيجار الدار، مما اضطره إلى شراء طعامه من سكر وشاي وزيت ونحو ذلك، من دكان جمعة العطار بالنسيئة، بالدين. وأصبح موضوع تسديد الدين للعطار سجلاً من الخصام والعراك. وكثيراً ما أثخن العطار في كلامه وتأنيبه للشاعر. كان مما قاله: «لو كان عندك عقل كان شفت لك مهنة فيها خير وتوكلك خبز ولا تشتغل بالشعر والكلام الفارغ».
أخيراً قرر العطار جمعة اعتبار الشاعر الكبير معسراً عاجزاً عن التسديد. وامتنع عن بيعه أي شيء. ما الذي يستطيع أن يرد به الشاعر على هذا الكلام الغليظ والتعسف غير أن ينفس عن عواطفه بالشعر، فكتب بيتين شامتاً في حارة الأعظمية:

عجبت لأهل الأعظمية كيف لا
يرضون جيرة جمعة العطار
جاورته زمناً وكان جواره
في منتهى الإنصاف، شر جوار

كان المنتظر من العطار، وقد خلده الرصافي في شعره، أن يفتح له دكانه ويقول له تفضل وخذ ما تريد. ولكنه لم يفعل، ففي ذلك الزمن كان الناس عقلاء ويعرفون أوادمهم ولم يعتبروا الشعر وقائل الشعر شيئا ذا بال، فبقي معروف الرصافي يعتمد في معيشته على بيع السجائر وتلقي المساعدات من أهل الخير.