أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

أزمة التحرش

تقول المعاجم العربية إن أصل لفظة تحرش هو "حَ رَ شَ".. وتستخدم اللفظة "فعلا" بمعان كثيرة، بينها الإفساد والتأليب والخدش والخداع.
وفي المجمل، تستخدم كلمة التحرش في العربية جامعة كل هذه الأوصاف والمعاني، مما يدل على ثراء وفصاحة العربية، مقارنة بنظيرتها الانجليزية على سبيل المثال، التي تستخدم الفعل harass لذات الدلالة، والذي يعني أصله: المضايقة أو الازعاج أو الانتهاك؛ فلا يعطي شمولية دلالة اللفظة العربية.
والأمر الذي حدث في مصر أخيرا ينبغي الوقوف عنده ومعالجته، فقد شاهد العالم امرأة جردت من ملابسها في وسط ميدان مثل التحرير بقلب العاصمة المصرية، والذي قيل إن سعته من المواطنين وقوفا تتجاوز خانة المائة ألف؛ فيما وصلت تقديرات أخرى إلى الستة أرقام. مما دعا الرئيس المصري الجديد عبدالفتاح السيسي، الذي حدثت الواقعة ربما خلال سويعات حكمه الأولى، أن يتخذ رد فعل سريعا بزيارة الضحية، والتشديد على ضرورة ضبط فاعليها ومحاسبتهم، وتشكيل لجنة حكومية لبحث الظاهرة المخلة.
العناصر الثلاثة فائقة الأهمية، فالزيارة هي أفضل اعتذار وقتي ممكن للضحية، والحسم في الواقعة مطلوب بالطبع ولا جدال عليه.. لكن ربما يكون العنصر الثالث هو الأهم لوجستيا لصناعة المستقبل ومنع تكرار الأمر بطريقة علمية، عبر تحليل المشكلة وأسسها من أجل القضاء عليها.
الحديث في الموضوع شائك ومتعدد الجوانب، ويستحق بالفعل لجنة على أرفع مستوى لبحثه. فالتحرش بالأنثى ليس وليد اللحظة في مصر، سبقت تلك الواقعة وقائع عدة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وأخرى في عهد المجلس العسكري، وكذلك في عهد الرئيسين الأسبق محمد مرسي، والسابق عدلي منصور.. مع اختلاف الدرجة والفداحة.
ولمحاولة علاج الأمر لا بد أن نواجهه بشجاعة وأن لا ندفن رؤوسنا في الرمال مثل النعام؛ فالمشكلة ذات أضلاع؛ أحدها اجتماعي، والآخر جنسي، والثالث سياسي.. ولا بد من طرق الأبواب ثلاثتها معا.
الشق الجنسي ربما يكون أيسرها فهما... شباب عاطل لا يكاد يجد قوت يومه، وصل –أو تخطى- سن الزواج.. زاد كبته؛ فازداد حنقه وحمقه؛ واندفع إلى شهوة حيوانية.
الشق الاجتماعي متراكب مع الأول، فالشاب المحترم طالب الزواج والستر، حتى وإن كان يعمل ويملك قوت يومه، يواجه بمطالبات تفوق طاقته.. مطلوب منه توفير شقة ومهر وتكاليف عرس وما شابه، رغم أن أغلب الاحصاءات المحلية والدولية تشير إلى ارتفاع عدد العنوسة إلى نسب غير مسبوقة في مصر؛ ما يشير إلى وجود انفصام تام بين الواقع المعاش وطموحات المواطنين في الدولة الفقيرة، التي يقع أغلب سكانها تحت خط الفقر؛ او الفقر المدقع، حسب تقارير دولية حديثة.
ومن نواتج الشقين السابقين معا وجد انفلات أخلاقي في الشارع المصري.. ورغم رفضي الشخصي لتصوير الأمر بصورة مبالغ فيها، كما تتناوله وسائل إعلام كثيرة، إلا أن ذلك الانفلات دخل بالفعل إلى مرحلة غير مسبوقة في بيئة كانت تعد التغزل في سيدة علنا فعلا فاضحا، وجب عقاب مرتكبه و"تجريسه".
اسهمت الضائقة المالية والتكدس وانفجار العشوائيات في رفع وإذابة حواجز القيم، فصار العيب والحرام؛ اللذان تناول مفاهيمهما الكاتب الكبير الراحل يوسف إدريس في روايتين ربما تعدان الأفضل، كلمات غير محددة المعالم.. لكن إدريس لو عاش إلى اليوم لاعتقد أنه كتب روايتيه في عهد "يوتوبيا"؛ أو جمهورية أفلاطون الفاضلة.
"اليأس" يبرز من ضمن العوامل الاجتماعية التي ربما تسهم في ذلك الانحدار.. فيأس رب الأسرة من تحسن أوضاعه، أو إيجاد مستقبل أفضل لأبنائه، وخاصة وهو يراهم عاطلين وزبائن دائمين في المقاهي، بعد أن فعل ما بوسعه لتعليمهم، صارفا على ذلك جل ما يملك آملا في مستقبل أفضل؛ لكنه وجد في النهاية خواء لا معنى له. ذلك اليأس جعل الأب والأم لا يمثلان أي مرجعية لأبنائهما.. وكيف يفعلان وهما لا يملكان لهم أي حلول لواقعهم المظلم، ولا لمستقبلهم غير المحدد الملامح؛ والأهم أنهما لا يملكان لهم بديلا ولا نصحا؟!
كل العوامل السابقة خلقت شريحة من المجتمع تبدو وكأنها تمقت كل شيء، وتتحين أي فرصة للانتقام الجماعي من الآخرين أيا كانوا.. تستبيح مالا أو عرضا.. تعده حقا سلب منها، فلا جناح إن اقتنصت أو اغترفت منه ما يمكنها "غصبا".
الشق السياسي، ربما يكون أكثر العناصر خطورة.. الجميع يعلم أن هناك "أصحاب مصالح" جندوا مجرمين من البلطجية ومعدومي الضمير خلال أحداث يناير عام 2011 التي دامت 18 يوما. وكان من بين طرق تفتيت الثورة، التحرش بالفتيات المعتصمات بالميدان. كان الهدف الواضح هو تسميم الجو، ودفع الفتيات للهرب، وإخافة الآباء والأمهات على بناتهم ومنعهن من النزول والمشاركة، و"كسر عين" الشباب الذين يرون انتهاك حرمات الفتيات دون أن يستطيعوا الدفاع عنهن.
من شهادات كثيرة لضحايا، يظهر أن عصابات التحرش لا تعمل إلا في الوقفات في الميادين.. المسيرات لا تشهد أغلبها حوادث من هذا القبيل، ربما لأنها تكون متحركة ولأن أغلب من فيها يكونون معروفين لبعضهم، ولكن السكون في الميدان، وازدحامه بآلاف البشر، يمكّن العصابات من الالتفاف حول الضحايا ومحاصرتهن وسحبهن بعيدا عن ذويهن أو اصدقائهن. ووسط الحلقة يبدأ الانتهاك، حيث لا تسمع أصوات استغاثة وسط جلبة الهتافات.
هناك الكثير من أصحاب المصالح والنفوس الضيقة يحاولون استغلال ما تمر به مصر من أوقات حرجة من خلال تشويههم للتجمعات الثورية والاحتفالية.
الواقع أن الأمر معقد.. هو لم يتفش بعد لدرجة أن يصبح رعبا على قدمين، لكن التساهل أو التهاون أو المماطلة في الحساب، ربما تفتح الباب لطوفان نوح؛ دون سفينته.