سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الخطيئة و«منطق الحيّة»

لا تزال الأولوية للمال والإعلان، لا للمصداقية والعلاقات الحميمية، كما يدّعي مؤسس «فيسبوك» مارك زوكربيرغ. والإجراءات الجديدة التي يتخذها «فيسبوك» مقدماً تعليقات الأصدقاء والأحباب على الأخبار التي تبعد بين الناس، هي لذر الرماد في العيون. فالأخبار ستبقى موجودة على الموقع، وإن بطريقة مختلفة، ويطلب من المشتركين التصويت لمصداقية المصدر، كي يتم لفظ ما لا توافق عليه الأغلبية بطريقة أوتوماتيكية. فكيف يمكن لمن يقع في فخ التلفيق، أن يحكم هو نفسه على أنه يخدع، في اللحظة التي يبتلع فيها الكذبة؟
وقضى اللبنانيون أسبوعاً صعباً، ليس فقط لأن صراعات السياسيين بلغت نزول المحازبين إلى الشارع، وكادت تطيح الأمن، بل لأن كذب الأخبار طغى على صحيحها، وملفّق «التغريدات» كان أكثر بأضعاف مما يفترض أن يكون في الواقع. فإضافة إلى خبر هرب 280 مريضاً من مستشفى المجانين الذي أرعب الأهالي، وتبين أنه عار عن الصحة، أعلن عن وفاة وزير سابق خرج بنفسه ليكذب الخبر، وقيل إن المحتجين في الشارع أنزلوا العَلَم اللبناني واستبدلوه بعَلَمهم الحزبي أمام وزارة التربية، بكل ما للفعل من حساسية وطنية، لتنفي السلطات الرسمية الخبر، بعد ذلك. وما إن هدأت هذه العاصفة في لبنان، حتى بدأ الجدال الغاضب حول التمثيل المريع بجثة المقاتلة الكردية بارين كوباني في سوريا الذي يخجل منه الوحوش، فكيف يتقبل أن يتناقله هذا العدد من الناس على وسائل التواصل، وكأنهم لا يشعرون بالإهانة أمام هكذا فضيحة إنسانية؟ ومع ذلك لا تزال القصة الحقيقية للفتاة الضحية ضائعة بين التصريحات والتفسيرات. كل زيف له أصل في الواقع، ومن هنا صعوبة التمييز. لكن هواة وسائل التواصل يسهمون، من دون علم منهم، أحياناً، في جعل التمنيات خبراً يحرّض على الفتنة، والرغبات قصة تدفع إلى الجريمة، ولا يبدو أن كل هذه الضوضاء، تساعد على الكشف أو المحاسبة، كما في حال المغدورة كوباني.
قيل في البدء إن الإنترنت ستكون فاتحة لديمقراطية لن تفرملها سطوة، وصارت لسوء الضبط، وتحت وطأة الجشع وتضارب المصالح، كارثة على الحريات. وكشف ناشط لبناني بعد أزمة الشريط المسرب الذي يصف فيه وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل رئيس مجلس النواب نبيه بري بـ«البلطجي»، وقامت الدنيا ولم تقعد، أن 75 في المائة من التعليقات المحرضة والشتائمية على وسائل التواصل التي كانت أشرس مما حصل على الأرض، مفبركة وآتية من خارج لبنان، وأن 77 شخصاً فقط تفاعلوا مع هذه الأزمة، من داخل الأراضي اللبنانية، في تلك الليلة التي تم فيها الرصد.
بالطبع يعرف القيّمون على «تويتر» و«فيسبوك» ما لا يقارن بالمعلومات المتواضعة للناشط اللبناني، ويصمتون عن فضائح الجيوش الإلكترونية الجرارة، التي تستخدمها، حكومات وشخصيات وأحزاب، كما شركات.
يعتقد زوكربيرغ أنه من «غير المريح» أن تعمل منصته على فلترة الأخبار الكاذبة، وقررت أن تترك الأمر لملياري مشترك يفعلون ما يشاؤون حذفاً أو تصديقاً. وهو ما لا يوافق عليه كاتب مثل نيكولا فندربست، متخصص في وسائل التواصل، بل يحذر من أن الأكثر حماسة لنشر الأخبار والتعليق عليها هم المتطرفون، كما تظهر الدراسات، وإذا كان هؤلاء هم الأكثر تأثيراً، فحتماً ستأتي خياراتهم تبعاً لأهوائهم لا ما تفترضه الموضوعية. وهذا هو ما يستنفر «مراسلون بلا حدود» التي نشرت على صفحتها تعليقاً على قرار زوكربيرغ تشرح له أن «الوقائع لا يتم تحريها بالتصويت. والعمل الصحافي يبنى على التحقيق الذي له مناهجه الدقيقة، وعلى تحري المعلومات للوصول إلى نتائج متكاملة، ذات مصداقية، تحترم الحقيقة».
وبانتظار إيجاد مخرج من الورطة المتعاظمة، فإن الصين فرضت على منصات التواصل الخاصة بها، ضبط الأخبار المزيفة وحمّلتها مسؤولية حذفها. ويسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإقرار قانون لمكافحة الأخبار الكاذبة، ولا يملك البابا فرنسيس سوى الثناء على مبادرات التوعية التربوية التي تتيح فهم كيفية التعامل مع الإعلام المخادع، وحديثه عن «الحية المحتالة» المعروفة وأنها كانت أول صانعة لخبر مزيف كما أورد، أما النتيجة الثانية فقتل أول إنسان لأخيه الإنسان.
الكذب منذ بدء الخليقة موجود، لكنه يتفاقم. يكفي أن نتذكر أي ضجة قامت ضد وكالة «رويترز» عام 2006 أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان، حين تبين أن المصور عدنان الحاج أضاف بعض الدخان على الصور، مع أن بيروت كانت مغطاة بالأسود، والحرائق مشتعلة، ولم يكن في حاجة إلى المزيد. يومها سحبت الوكالة العالمية أكثر من 900 صورة له كانت قد حصلت عليها؛ حفاظاً على ماء وجهها. بعد عشر سنوات من هذه القصة، لم يعامل أشهر مصور في «ناشيونال جيوغرافيك» الأميركي ستيف ماكوري بالقسوة نفسها، حين تبين أن صورة الفتاة الأفغانية شربات غولا، التي صارت من بين الأشهر في العالم، قد تعرضت للمسات الفوتوشوب، وتحديداً عينيها الخضراوين الساحرتين اللتين خلبتا أكثر من أي شيء آخر. وبقي المصور الأميركي يدافع عن استخدامه الفوتوشوب في الكثير من صوره التي يبيعها وينشرها، معتبراً الموضوع مكان نقاش وحوار. ربما هان الأمر؛ لأن النفوس باتت أكثر تقبلاً للزيف وأقرب للتسامح مع الخداع.
في كل الأحوال، خسر زوكربيرغ في وقت قياسي، ومنذ تطبيق طريقته الجديدة في عرض الأخبار، وقبل أن تصل إلينا، أكثر من ثلاثة مليارات دولار، وهو ما لم يكن في حسبانه، وتبقى له 72 ملياراً. ولا نعرف ما هي أفكاره الجهنمية الجديدة، ولا الابتكارات التي سيلجأ إليها لتعويض ميزانه المالي، وإنما نستطيع أن نفترض، من الآن، من سيدفع ثمن تجاربه الإلكترونية الذكية؟