جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

الآن فقط ذقت طعم الفراق

لطالما عرفت أن الموت حق علينا جميعا، وكنت دائما أتحايل على تخيّل تلك اللحظة الأليمة، ظنا مني بأن والدي و«فؤادي» سيبقى دائما كريما عليَّ بطلّته البهيّة، وروحه الجميلة، وكرمه اللامتناهي، ودماثة خلقه، وحبه لي ولعائلتي، لكنه بخل عليَّ هذه المرة، واكتفى بالتحدث معي هاتفيا، ولم ينتظرني على شرفة المنزل، كما اعتاد أن يفعل بابتسامته العريضة التي كانت تغني عن ألف كلمة، ولا تزال كلماته الأخيرة ترن في أذني «انتهي من عملك وتعالي - أنا بانتظارك».
وأنا في طريقي اليه، كان الموت أسرع مني، ولم ينتظر دقائق لكي أسعد برؤية ابتسامته المعهودة، وحفاوته وترحيبه المعتادين، واستقباله اليومي لي الذي كان أشبه بعرس.
دخلت الغرفة التي كان يلفّها سكون لا يمكن وصفه بكلمات، شعرت بأن الملائكة كانت حاضرة تلف المكان، وكان أبي في نومه العميق، فلم يسمعني وأنا أناديه، أعدت الكرّة.. ناديته مجددا، ولكن صاحب القلب الكبير الذي كان يستيقظ على أي همسة مني ومن إخوتي، لم يجب. عندها دارت في خوالجي مشاعر غريبة في ثوان قليلة، استرجعت فيها أجمل لحظات حياتي مع أبي ومعلمي ومصدر فخري واعتزازي.
كنت أسمع بالفراق، ولكني لم أذق طعمه، إلى أن غاب أبي عنا بجسده، ولكن عزائي الوحيد هو أنه رحل تماما مثلما عاش، هنيا شامخا وممتنا لحياته التي جدّ واجتهد فيها ليعبّد لنا الطريق لنعيش حياة رغدة.
لقد جاء أبي إلى لندن وكأنه كان يعرف أن هذه رحلته الأخيرة.. هذه المدينة التي أحبها وأحب من فيها، في آخر مرة رأيته فيها بقلب نابض بدا هادئا ومتأملا، فهل يا ترى عرف أنها رحلة الوداع؟
والآن وقد تذوقت طعم الفراق ومرارته، أجد الأسى يأكل القلب، ويكسر النفس، ويدمع العين. إنها حالة من الصعب نسيانها، بل إنها ستظل لحظة مريرة، ولوعة في القلب إلى الأبد.
من عرف أبي أستاذا رأى فيه الرصانة والرزانة والوقار والجديّة في ملعب المدرسة، لأنه كان أستاذا صارما ومربيا صالحا، أدى رسالته على أكمل وجه، وعلى الرغم من رصانته وجديته، كان بشوشا وسريع البديهة، وصاحب نكتة، ولا يتوانى عن مساعدة الجميع بكل رحابة الصدر.
كان أبا وزوجا وجدا ذا قلب حنون، وكان ذا عاطفة جياشة، لا توحي بها ملامح العنفوان على وجهه.
كان أنيقا دائما في هندامه، وكانت البدلة وربطة العنق ملازمتين له، ولم يتخل عنهما يوما.
عرفت حنانه وعطاءه إلى أبعد حدود، فكان أبي وصديقي ومعلمي، وكنت أفتخر بأني ابنته، كيف لا وأنا من عايشه سنين طويلة، وهو من علمني حب الحياة والسفر والمعرفة، والأهم من ذلك كله، هو أنه رباني أنا وإخوتي على العطاء والمحبة والتسامح.
كم يسعدني أن أشبّه به، فقد كان مثالا للحب والطيبة والحنان، وكان أبا استثنائيا.
يوم الوداع كان صعبا، ولكن مودة الناس ومؤازرتهم زرعتا في نفسي المواساة، وبعثتا في نفسي الانشراح، لأنهما جاءتا صادقتين من أناس عرفوا فؤاد إيليا من مقاعد الدراسة، وعايشوه أستاذا يعلم أبناء جيله لكي يتمكن من دفع تكاليف دراسته، ولا بد أن أعترف بأن هذه القصة رافقتني منذ صغري، وجعلتني أتحدى نفسي لكي أتمكن من الوصول إلى بعض مما وصل اليه أبي الذي كوّن نفسه بنفسه.
الكلمات لا تسعفني يا أبي الحبيب للتعبير عمّا يدور في نفسي من حزن لفراقك، وكم كنت أتمنى لو أمهلك الموت المفاجئ قليلا فقط لأقول لك: «أحبك».
سأبقى أردد بيت الشعر القائل:
يا منْ يعزُّ علينا أن نقارقَهم
وجداننا كلُ شيء بعدكم عدمُ