د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الفساد لا يعالَج بالتنظير

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الفساد وكيفية محاربته بل وأيضاً محاربته بالفعل. طبعاً لا شك في أن الحديث عن الفساد ومقاومته من المظاهر الصحية، ودليل صحوة وطنية ومعالجة من الجذور لأسباب الأزمات التي تعيشها بلداننا.
ولكن في البداية أريد أن أوضح نقطة تبدو بديهية ومحبطة نسبياً لمن يعتقدون في المدينة الفاضلة: الفساد ظاهرة لا يمكن القضاء عليها، وكل ما تستطيعه المجتمعات والأنظمة الحاكمة هو فقط التخفيف منه، والبلد الأكثر قدرة على التخفيف من الفساد، هو البلد الأكثر نجاحاً. بمعنى آخر، فإن الرّهان يكمن في كيف يكون مجتمع معين أقل فساداً من غيره.
هذا أولاً.
النقطة الثانية المهمة حسب اعتقادنا تتمثل في أن الفساد ليس بنيوياً في تركيبة المجتمعات، بل هو نتاج ظروف وسياقات وأسباب يجتمع بعضها مع بعض فتجعل من الفساد حلاً. لذلك فإن الاكتفاء بتفسير ظاهرة الفساد ومظاهرها الكثيرة بانهيار القيم لا نعتقد في وجاهته من حيث الإقناع وتحقيق الفهم. ولا يمكن لهذا السبب أن يكون مهماً ومفسراً إلا إذا تم قرنه بسبب مادي واقعي.
من هذا المنطلق، فإن معالجة الفساد تنهض في اتجاهين اثنين أساسيين؛ تحريك عجلة الاقتصاد وإشباع التوقعات الاقتصادية والحاجات المادية للمجتمع، وثانياً بتقوية التشريع في مجال الفساد، مع العلم أن الاتجاه الثاني لا جدوى حقيقية منه إلا بالتنمية الاقتصادية وتحسين ظروف الحياة المادية.
صحيح أن المدلول الأول والمباشر لمعنى الفساد هو أخلاقي وقيمي من حيث المضمون الرمزي، ولكنّ هذا المدلول الرمزي بالذات يعالَج بالمادي الاقتصادي في جزء وافر ومهمّ منه.
وهنا نتساءل: في بلدان مثل تونس وغيرها إلى أي مدى يمكن الحديث عن حرب حقيقية ومجدية ضد الفساد وأربابه ورؤوسه وأذنابه وألسنته، والحال أن الاقتصاد متأزم وعجلة الاقتصاد متعثرة والعملة المالية الوطنية منهارة إلى أبعد الحدود؟
يبدو لي أن هذا الحديث لا يستقيم ولن يستقيم اللهمّ إلا إذا رغبنا في خطاب الوهم والكذب على النفس. يجب أن تجتهد النخب الحاكمة التي رشحت نفسها للحكم ورأت في نفسها الكفاءة لتحسين أحوال الناس في توفير بيئة اقتصادية تساعد على تحقيق الكرامة المادية وتوفر فرص العمل للعاطلين عن العمل. لا تستطيع أن تحارب الفساد وثلث السكان عاطل عن العمل، والقدرة الشرائية منهارة، والغلاء يفعل فعله في المواد الأساسية والكمالية، مع العلم أن دائرة الكماليات تغيرت واتسعت دائرة المواد والحاجيات الأساسيّة.
أما إهمال مجال الاستثمار والتعويل على مداخيل السياحة والمديونية لتوفير أجور الموظفين والرهان على الضرائب والأداءات... فكل هذا هو تشجيع مقنّع للفساد، بل إن تركيز الدولة على الأداءات والجباية هو في حد ذاته رسالة غير مطمئنة، ودليل فشل النخبة الحاكمة في ابتكار حلول استثمارية تحرك عجلة الاقتصاد وتفتح المجال للتشغيل وللتصدير.
إن الأفق الاقتصادي هو مقدّمة رئيسية لا بدّ منها قبل الخوض في ملف الفساد: من المهم أن تستعرض الدولة بدائلها وتقدم حلولاً ماديّة واقعية كي تجد الأذن الصاغية لها، وتنجح في إيصال خطابها حول الفساد. فالتأثير في الشعب اليوم يكون بالأرقام والمعطيات الكمية والنوعية الآنية وليست المستقبلية. لن تنجح أي نخبة حاكمة في الإقناع والتأثير إذا اكتفت بخطاب الوعود المستقبلية دون تمرير إجراءات وفتح آفاق آنية تقوّي من مصداقيتها ومن ثم مشروعيتها السياسية.
نعتقد أن تحريك عجلة الاقتصاد على نحو يبث الأمل في تحقيق الكرامة المادية يعد أنجح سلاح ضد الفساد، ووحده يخفِّف منه لأنه يقتلع أسبابه المادية من جذورها ويسحب علة الفساد من ممارسيه الذين وجدوا فيه حلاً لتعويض ما أخفقت في توفيره السياسات.
إذا وضعنا في الاعتبار أهمية المعالجة الاقتصادية لظاهرة الفساد التي أصبحت تحظى بتسامح اجتماعي في مجتمعاتنا بشكل غير مسبوق، فإننا نكون قد وضعنا الدواء فوق مكمن الداء، أو لنَقُلْ بلغة نسبية موضوعيّة عالجنا رأس الداء وبقيت الأطراف.
وبالتوازي مع المعالجة الاقتصادية تصبح المعالجة القانونية التشريعية عامل تحصين ومساعدة في نفس الوقت. وعندما تنجح النخبة الحاكمة في حل المشكلات الاقتصادية والتخفيف من معدلات الفقر والبطالة فإنه يحق لها الذهاب بعيداً في مجال التشريع ضد الفساد.
وكي نكون أكثر واقعية وبعيداً عن لغة التشكيك والتجريح فإنّه موضوعياً واستناداً إلى التحليل البنيوي للظواهر، وهو تحليل يبدو لنا ما زال يمتلك وجاهة التوظيف في مجتمعاتنا، لا يمكن أن ينجو القضاء كمؤسسات وفاعلين وأعوان من ظاهرة الفساد إذا عم الفساد المجتمع: وهنا تكون الكارثة الحقيقية، ذلك أن القضاء نسق فرعي من النسق الاجتماعي العام، وما يطرأ على بقية الأنساق التحتية يطرأ عليه أيضاً، الأمر الذي يعني أن محاربة الفساد وإنْ كانت تتم من خلال القضاء فإن هذه الحرب لا تستطيع أن تمارس الفساد مع القضاء وتصمت.
بيت القصيد: مقاومة الفساد مقاومة طويلة النَفَس ولا تقوم على التنظير المثالي، بل تستند إلى آليات عملية تُسكت الجوع وتحفظ الكرامة المادية. ولا حرب للفساد خارج الاقتصاد أولاً وثانياً والقضاء ثالثاً.